سياسة

تركيا و”الثورة الاجتماعية”


القراءة الأولية لردود فعل أردوغان على التحديات التي يواجهها خارج الحقلين السياسي والحزبي.

 تشي بأنه يخشى المواجهة مع القوى الاجتماعية لمعرفته أنها الأقدر على إرباكه وتحدي نزعته وجنوحه نحو الديكتاتورية والهيمنة السياسية على مختلف قطاعات المجتمع التركي، إنه يخشى الثورة الاجتماعية لأنه لا يستطيع تحقيق نصر حاسم على بيئة مناهضة له فكرياً وعقائدياً واجتماعياً على عكس التيارات والزعامات السياسية والحزبية المعارضة له؛ إذ يمكنه توظيف الكثير من قوانين العقوبات وتفصيلها عليهم تبعاً لمستوى التحديات التي تقف في وجهه، في حين يلجأ، بسبب عجزه عن استئصال الثورات الاجتماعية، إلى العنف المباشر كسلاح قمعي لترهيب النخب الفكرية والأكاديمية والفنية كما حدث عام 2013 في جيزي بارك، وفي جامعة بوغازيتشي منذ نحو شهرين.

 أياً تكن الجهات أو التيارات التي رفعت راية التحدي بوجه أردوغان على خلفية أحداث جامعة بوغازيتشي مؤخراً؛ فإن دلالات الحدث أعمق بكثير من مطالب ظرفية أو نوايا مبيتة، أو حتى اعتبارها برامج قوى معارضة للضغط على أردوغان ودفعه للاستقالة كما ادعى في معرض تعليقه على ما شهدته الجامعة التركية، الأعرق، من صدامات بين عناصر الشرطة التركية ومحتجين على قراره بتعيين أحد أعضاء حزبه “العدالة والتنمية” من خارج السلك التعليمي للجامعة رئيساً لها بعد إقالة رئيسها السابق المشهود له بكفاءته العلمية والأكاديمية لكونه على الطرف الآخر من التيار الحزبي والسياسي المناصر للرئيس التركي.

يستكمل أردوغان نهجه التسلطي وقيادته الفردية بمحاولات التسلل المباشر إلى سلك التعليم الجامعي؛ لأنه يدرك أن هذا القطاع لن يكون في غالبيته العظمى مع نهجه الساعي إلى الهيمنة المباشرة على جميع قطاعات البلاد، وهو النهج الذي تتضح معالمه يوماً بعد يوم وصولاً إلى طروحاته ومطالباته بتغيير الدستور التركي دون الإفصاح عن الدوافع والأهداف التي أوحت له بهذا التوجه، لكنّ أمراً بهذا الحجم من الانعطاف الأردوغاني على الصعيد الداخلي لا يفوت على تيارات وقطاعات حزبية وسياسية تركية معارضة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وقد عبرت بمواقفها وردود أفعالها عن إدراكها لخطورة ما يرمي إليه من وراء تعديل الدستور، وكشفت دوافعه السياسية والحزبية الضيقة ونزعته نحو حيازة السلطة المطلقة في القيادة والإدارة والقرارات السياسية وغير السياسية على مختلف الأصعدة.

 تعيد أحداث جامعة بوغازيتشي، بمضامينها السياسية والاجتماعية، إلى الأذهان وقفة النخبة التركية بمختلف مدارسها وتياراتها وأيديولوجياتها ضد قرار أردوغان عام 2013، وكان حينذاك رئيساً للحكومة التركية، القاضي بتحويل متنزه جيزي بارك وسط إسطنبول إلى مركز تجاري، حينها تمكن المحتجون من النخب من مجابهة عنف شرطة أردوغان ودمويتها وسقط عدد من الضحايا بين المحتجين وجرح الكثير، ولكن: هل كان الدافع وراء الحركة الاحتجاجية على القرار هو التناغم الرومانسي بين المحتجين وبين المكان فحسب؟ بالطبع لا يقتصر الأمر على ذلك؛ فقد تمكن المحتجون بوعيهم وإرادتهم وإصرارهم من تعرية الدوافع المبيتة لدى السلطة الأردوغانية الرامية إلى قضم حرية الإنسان التركي كجوهر عبر طمس معلم تاريخي متجذر في الذاكرة الشعبية للناس، وإقصاء كل من لا يدين بأيديولوجية حزبه الإخوانية التي يتلحف بها كستار يمرر من خلفه رغباته ونزعاته الديكتاتورية.

التماثل بين الواقعتين، رغم الفاصل الزمني بينهما، ينبع من حاملهما الواحد وهو النزوع نحو التفرد بالقرار وتجاهل القوانين الناظمة وتجاوزها حين يقتضي الأمر تحقيق مكاسب حزبية وشخصية تعزز رصيده وهو ساعٍ نحو سلطة الرجل الأوحد. ملامح التفرد بالسلطة وبالتالي بالقرار من قبل أردوغان لخصها مبكراً بمهارة، صديقُه ورفيق دربه السابق المعارض الأشرس له حالياً علي باباجان، تعليقاً على أحداث جيزي بارك بقوله “إنها الفترة التي تم فيها وضع أسلوب أكثر استبداداً في الإدارة، والامتناع عن التشاور، والاستغناء عن الأشخاص الأكفاء ببطء”.

يستغل الرئيس التركي في هذه المرحلة عدة نقاط؛ أبرزها عدم تبلور أجسام معارضة وازنة حتى الآن، بحيث يمكن لكل جسم تشكيل ضغط حزبي وسياسي ومجتمعي منافس له ولحزبه، وكذلك غياب نقاط التقاء بين الأحزاب تمكنها من تشكيل هيكل معارض بصيغة ائتلافية، يمنحها القدرة على استثمار المزاج الشعبي لدعم توجهاتها المناهضة لسياسة التفرد الأردوغاني، لكن حالة نهوض مجتمعي تلوح في أفق البلاد قد تشكل رافعة للقوى والتيارات والشخصيات المعارضة لسياسة أردوغان وتربك حساباته، خاصة أن معاركه لم تعد موجهة فقط ضد خصومه الحزبيين ومعارضيه من التيارات العلمانية غير المنضوية تحت رايته، ولا ضد القوى الكردية الممثلة في البرلمان التركي، بل وسّع دائرتها لتطول الطبقة العلمية والنخب الرافضة لنهجه والقوى الاجتماعية المتحررة من ربقة الانتماء لحزب أو لأيديولوجيا، معتمداً صيغةً من اثنتين؛ إما الرضوخ والقبول بما يقرر، وإما القمع بأشكال متعددة بدءاً من مصادرة الحرية الفردية وصولاً إلى الاعتقال مروراً بالحرمان من المكتسبات والحقوق الطبيعية.

التراكمات والاحتقانات داخل المجتمع التركي بمختلف انتماءاته ومدارسه الفكرية والنخبوية تتزايد بعد أن عاين الكثيرون منهم مؤشرات انزلاق بلادهم على يد أردوغان وحزبه وأيديولوجيته الإخوانية نحو دروب ضيقة تخدم السلطة الحاكمة ومصالحها على حساب قضايا جوهرية متعلقة بحقوق الإنسان التركي في الحرية والتعبير والتجمع، وسعي أردوغان لابتلاع الدولة وإيداعها في جوف حزبه الإخواني وتحويل مؤسساتها خادمة لأيديولوجيته ومصالحه تشبه عملية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؛ وهو ما تنبهت له شرائح اجتماعية متنوعة المشارب، متحررة من المؤثرات الحزبية، ودوافعها مرتبطة بجذور الديمقراطية التركية وثقافة المجتمع التركي الضاربة جذورها في التاريخ، وكما ألهمته في عقود غابرة سبل وإمكانات التحرر من الاستبداد والاستعباد، ستكون مَعينَه في ابتكار أدوات الدفاع عن حقوقه وحريته الشخصية مستقبلا.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى