تركيا في سوريا وليبيا.. الحجة ونقيضها


لأننا نعيش مرحلة تاريخية تمثل تجليا كاملاً لسياسات عصر ما بعد الحقيقة post-truth age، تلك الحالة التي يعرفها قاموس أكسفورد بأنها “حالة تكون فيها الحقائق الموضوعية قليلة الأهمية، وأضعف تأثيراً في تشكيل الرأي العام؛ إذا ما قورنت بالآراء الفردية والعواطف، والمعتقدات الشخصية، ففي هذه المرحلة من سياسات ما بعد الحقيقة؛ من السهل انتقاء بعض المعلومات للوصول إلى النتيجة التي تريدها”. وذلك من خلال تحويل الأكاذيب والإشاعات إلى حقائق عبر تناقلها من مصدر مكذوب مختلق إلى ناقل معتبر بدون نسبة فتتحول بعد فترة من التناقل إلى حقيقة دامغة لا يستطيع أن يشكك فيها أحد، اعتمادا إلى شرعية المصدر الثانوي الناقل وليس المصدر الأصلي غير الموجود. 

إن أكثر نموذج يمثل سياسات عصر ما بعد الحقيقة هو النموذج التركي/القطري، الذي استطاع أن يؤسس امبراطورية إعلامية؛ تمتلك منافذ لتشكيل الرأي العام والوعي الجمعي العربي؛ تمتد من الإعلام القديم ممثلا في القنوات التلفزيونية والصحف إلى الإعلام الجديد الذي يشتمل على المواقع الإخبارية على الإنترنت، وجيش ضخم من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي؛ وصلت درجة خطورتهم إلى أن إدارة موقع “تويتر” تتحرك لمواجهة طغيان حالة الزيف والبهتان والكذب التي وصلوا إليها فتغلق 7340 حسابا مزيفا نشرت أكثر من 37 مليون تغريدة.

ولكن هذا الركام من الزيف لا يصمد كثيرا أمام العقل والمنطق للتحليل السياسي الهادئ البعيد عن التشنج أو التشخيص، وإذا نظرنا في الحجج التي يسوقها النموذج التركي/القطري؛ عبر كل قنواته الإعلامية؛ في تعامله مع التدخل التركي في سوريا وفي ليبيا؛ سنجد أن كل ذلك الجيش من أساتذة الجامعات، والخبراء، والمحليين، والمتحدثين الرسميين، والإعلاميين قد فقدوا أبسط قيم النزاهة واحترام الذات، وتخلوا عن أبسط قواعد الصدقية والأمانة، وغاصوا بعمق في حالة لا إنسانية من الانتهازية والدعاية الممجوجة؛ التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا حتى مع الدعاية النازية في عهد وزير الدعاية في حكومة هتلر “بول يوزف جوبلز”، وفي النقاط التالية سوف يظهر كيف وظف هذا النموذج الحجة ونقيضها في حالتين معاصرتين؛ تتدخل فيهما تركيا عسكريا مبررة تدخلها بمبررات متناقضة في ذات اللحظة التاريخية.

أولا: التدخل بناء على طلب الحكومة الشرعية، وبناء على اتفاقية مع الحكومة المعترف بها دوليا، والتي تمثل الدولة في الأمم المتحدة، ولها سفارات في دول العالم. هذه هي حجة التدخل التركي في ليبيا، وهي نقيض حجة التدخل في سوريا، حيث يحارب الجيش التركي الحكومة المعترف بها دوليا والتي تمثل سوريا في الأمم المتحدة وتمثلها سفارات في دول العالم، والتي وقعت اتفاقيات عديدة مع أردوغان ذاته وليس فقط الدولة التركية.

ثانيا: التدخل لمواجهة المتمردين والانقلابين، والخارجين عن سلطة الحكومة الشرعية؛ وهي حجة التدخل في ليبيا، أما في سوريا فنقيض هذه الحجة هو المبرر، حيث التدخل التركي في سوريا لمساندة المتمردين والانقلابين والخارجين عن سلطة الحكومة الشرعية بعد تغيير وصفهم إلى الثوار.

ثالثاً: إنشاء منطقة آمنة في طول الشمال السوري؛ بعمق ثلاثين كيلو متراً على الأقل لحماية الأمن القومي التركي، ولمواجهة الإرهاب، حجة يوظفها النموذج التركي/القطري لتبرير احتلال تركيا لشمال سوريا، والسعي إلى تتريكه وضمه إلى الدولة التركية بعد ذلك. أما في ليبيا فلا تسري هذه الحجة على مصر، ولا يحق لمصر أن تقترب من الحدود الليبية لحماية أمنها القومي، ومواجهة الإرهاب الذي تسرب من الحدود، وقام بعمليات إرهابية في داخل مصر شهدها العالم أجمع.

رابعاً: الرئيس التركي يبرر تدخل بلاده في ليبيا للشعب التركي بمكاسب اقتصادية تتعلق بالبترول والغاز، وإعادة الإعمار، والعمالة، والشركات، بل والبدء فعليا في حجز المشروعات والخطط والاستثمار والتنقيب عن النفط والغاز؛ حتى قبل انتهاء المعارك، واستقرار البلاد. وفي نفس الوقت اتهام كل من يساند البرلمان الليبي، والجيش الوطني الليبي بأنه طامع في الثروات الليبية، وفي مكاسب إعادة الإعمار.

خامساً: الاعتماد على التأييد والدعم والمساندة الأمريكية، وتوظيف اتصالات الرئيس أردوغان بالرئيس ترامب لتخويف الخصوم، ولإضفاء مساندة دولية على التدخل التركي في ليبيا، واتهام كل من يعتمد على روسيا أو على فرنسا بكل مخزون التهم التي تعودت الأحزاب الدينية على ترديدها ضد خصومها.

سادساً: اتهام الجيش الوطني الليبي باستخدام مرتزقة من جنسيات مختلفة، دون أن يظهر مرتزق واحد منهم على وسائل الإعلام، أو يتم قتله أو أسره من قبل مليشيات فايز السراج، وفي نفس الوقت العالم كله يشاهد ليل نهار الآلاف من المرتزقة الإرهابيين المشحونين من سوريا إلى ليبيا بكل وسائل الدولة التركية وبكل الدعم والتمويل القطري، وقد تم أسر المئات منهم، تحدثوا لوسائل الإعلام بالصوت والصورة، وكذلك تم قتل مئات أخرين، وشحنت أجسادهم إلى تركيا، وتم حبس صحفيين أتراك تحدثوا عنهم بتهمة كشف أسرار عسكرية.

سيأتي يوم ولو بعد حين يحاكم التاريخ كل من شارك في معركة الزيف والبهتان التي تقودها قطر وتركيا، وتسعى من خلالها إلى تحقيق مكاسب سياسية لحكام مقامرين بمستقبل شعوبهم، وبسمعة دولهم، حينها سوف يتمنى كل من شارك في هذه الفضائح الأخلاقية؛ أو أبناؤهم وأحفادهم لو كانوا نسيا منسيا.

نقلا عن العين الإخبارية

Exit mobile version