تاريخ الألم والدم: إيران بين ثورة الآن وثورات الماضي
منذ عام 1979 والشعب الإيراني يحمل روحه على كفه إن أراد يوما حرية أو ثورة أو انتفاضة أو كرامة.
منذ ذلك التاريخ والمعادلة في إيران تقول: السلطة مقابل الدم، تتحقق تلك الأسطورة القديمة بأن السلطة ساحرة شريرة تتغذى على دماء الشعوب لتبقى وتعيش. تلك إذاً حكاية الثورة التي تدور الآن وبقية الثورات التي أرادت يوما أن تثور على ثورة الخميني.
عشرة أعوام تفصل ما بين تلك الثورة الأخيرة التي تفجرت شرارتها في شوارع وأزقة المدن الإيرانية بعد زيادة أسعار الوقود، وبين الثورة المخملية التي اندلعت في عام 2009 احتجاجا على تزوير الانتخابات الرئاسية التي أبقت على أحمدي نجاد لولاية رئاسية ثانية. عشرة أعوام لم تهدأ فيها ثورة الشعب الإيراني حتى لو هدأ الشارع.
أحبطت الثورة المخملية كما أطلق عليها البعض أو الثورة الخضراء نسبة إلى اللون الانتخابي الذي اختاره وقتها “مير حسين موسوي” المرشح الإصلاحي “الذي تم التواطؤ عليه ليخسر”.
كانت تلك الثورة المخملية أو الخضراء ثورة بدأت من أعلى ثم انضم إليها الشعب والشارع فاكتسبت سمات الثورة الحقيقية، ثورة بدأها رموز الإصلاح الخاسرين في الانتخابات الرئاسية “مهدي كروبي، مير حسين موسوي”، وانحاز إليهما محمد خاتمي، ثورة ضد انحياز السلطة متمثلة في المرشد وفي الحرس الثوري إلى مرشح بعينه ضد تيار بأكلمه وهو التيار الإصلاحي.
ورغم ذلك تلقف الشارع الإيراني تلك الشرارة ليحولها إلى ثورة من أجل مطالب شعب، ثورة تعكس تراكمات السنين التي مارس فيها الملالي أقسى أنواع القهر على الشعب. قمعت السلطة تلك الثورة، فرضت الإقامة الجبرية على زعماء الإصلاح، مير حسين موسوي وزوجته، وعلى “الشيخ مهدي كروبي” وما زالت مفروضة حتى الآن، وفشل الجميع في كسرها وتحريرهم منها رغم محاولات الرئيس الحالي “حسن روحاني” باعتباره إصلاحيا قديما.
اعتقدت سلطة خامنئي أنها نجحت في قمع تلك الثورة وإفشالها لكن اتخذت تلك الثورة أشكالا مغايرة، في صورة احتجاجات تارة، وفي صورة انتفاضة للبازار الكبير تارة أخرى، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، شوارع إيران تنتفض والمدن تشتعل، والسلطة تقمع بكل قوتها والسؤال الحائر في كل سماء يقول: هل ستلحق تلك الثورة بسابقاتها وتفشل؟
ما المختلف بها لتبقى وتنجح؟
إنه سؤال القدر ولا نملك نحن الذي يراقبون ويرصدون سوى تفكيك الحالة وإعادة تركيبها أمام القارئ الكريم، فما يحدث الآن هو ثورة مختلفة عن الثورة التي سبقتها في 2009، فهذه الثورة سمها “ثورة محروقات أو ثورة الخبز والعيش” تلك ثورة تبدأ من الناس والشارع، تبدأ من الأسفل وتصعد إلى الأعلى إلى السلطة الحاكمة.
تلك ثورة ليس لها قادة أو رموز مثل الثورة المخملية في 2009، وإنما قاداتها جماهير الشارع. المتغير المهم أيضا والذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار الحراك الإقليمي المجاور لإيران خصوصا في العراق وفي لبنان. أجمل ما قيل عما يحدث أن الثورة ضد النظام الإيراني تتحرك من العراق تمر بلبنان وتنتهي في طهران وشيراز وأصفهان.
فهي ثورة خبز ولقمة عيش في طهران سرقتها الملالي من أفواه الشعب الإيراني لتصنع بها قنابل تنفجر في العراق ولبنان واليمن، ولعل وعي الشارع الإيراني يثبت ذلك عبر عفوية شعاراته المهمة حين يقول لا غزة ولا لبنان، لا سوريا ولا اليمن.
الثورة في إيران ضد نظام الملالي، الثورة في العراق وفي لبنان ضد نظام الملالي أيضا ولكن بطريقة معاكسة؛ إن الشعب العربي العراقي والشعب العربي اللبناني يرفضان المال الإيراني المسمم الذي بدخوله إلى بلادهم قسمت وفتت وخربت، وانشق المجتمع إلى فئتين: فئة استقوت بسلاحها كما في لبنان وفئة استقوت بسلاحها وسلطتها كما في العراق، وفي الحالتين المحرك والمغذي واحد وهو النظام الإيراني.
فنحن لسنا أمام ثورة إيرانية في الشوارع الإيرانية فقط، وإنما نحن أمام ثورات ضد إيران في الداخل الإيراني وفي الخارج الإيراني.
هذه المرة ثمة متغيرات جديدة يجب أن تؤخذ في الاعتبار ونحن نحلل ما يجري، لأول مرة يتم تجاوز وهم المقدس المفروض قهرا على الإيرانيين وهو الفقيه المعصوم، ظل الله في الأرض، وكيل الإمام الغائب، لأول مرة تحرق صورة لعلي خامنئي في شوارع إيران، الشعارات تطال المرشد حين يوصف بالديكتاتور.
المطالبة بإسقاطه هو، الشعب يكسر حاجز الخوف، يتغلب على مفهوم المحرم، والممنوع، والخوف، يتجاوز منصب رئيس الجمهورية، ومنصب الحكومة، وبقية مناصب الملالي ويقفز مباشرة إلى الولي الفقيه.. إلى المرشد.
المتغير الأهم والذي قد يشكل عوامل نجاح تلك الثورة أو عوامل إفشال لها هو موقف مكونات المجتمع الإيراني منها: نحن أمام مجتمع معقد، له مكونات متضاربة عرقيا ودينيا وسياسيا، ومعيشيا أيضا.
يقول العارفون لهذا المجتمع إنك إن أردت تقسيمه فيجب أن يقسم إلى “مسجد وقصر سلطان وبازار” تلك المؤسسات الحاكمة في المجتمع يديرها أشخاص نافذون في أماكنهم، رجال دين في المساجد، وتجار في البازار وساسة في قصور الحكم، فما مواقف تلك المؤسسات الحاكمة في المجتمع من تلك الثورة؟
إنها ثورة ضد السياسة ورجالها، وثورة ضد رجال الدين الذين أوجدوا تلك الصيغة السياسية الحاكمة في إيران، هذا الزواج بين الفقيه الديني والسياسي الحاكم، تلك الصيغة التي أوجدها الخميني، في السابق كان هناك شاه يحكم، وشيخ يفتي، ولما جاء الخميني أزاح الشاه والشيخ وجلس مكانهما يحمل في يد سلطة الفقيه، وفي اليد الأخرى سلطة الحاكم.
ما الذي بقي إذاً؟ الذي بقي هو “البازار”، الذي ظل أكثر من أربعمائة عام هو المنظم لطبقات المجتمع، الذي يدور في فلكه الجميع، ظل البازار في إيران في اهتمام رجال الدين من علماء المذهب الشيعي فمنه يخرج الخمس من الأرباح لتسلم إلى يد رجال الدين، ويخرج منه أيضا “سهم الإمام ” وهي مبالغ كبيرة غير التبرعات الطوعية. وبالتالي نجح البازار في احتواء رجال الدين تحت تأثيره.
ونجح أيضا البازار “في كسب ولاء الطبقة الفقيرة في إيران عبر دعمه للجمعيات الخيرية إذا تعتمد ما يزيد على 700 جمعية خيرية في جميع أنحاء البلاد على التبرعات التي تصل من البازار، كما أيضا يمثل مصدر تشغيل أكثر من 600 ألف عاطل عن العمل.
تقول حقائق التاريخ إنه لولا وقوف البازار ورجاله مع الخميني لما نجحت ثورته بأي حال من الأحوال، فلولا الدعم المالي وتحريض الشارع ضد الشاه لما نجحت ثورة الخميني 1979.
موقف البازار الآن قد يكون هو العامل الأبرز الحاسم لإنجاح هذه الثورة أو فشلها، لعل هناك مؤشرا يمكننا من خلاله تحليل موقف البازار. فقد أغلق البازار أبواب محال التجارية، الأحد الفائت، بالتزامن مع هذه المظاهرات كأنه يقدم رسالة واضحة إلى الشارع الإيراني بأنه معهم، وبأن ثمة خطوات قادمة ستكون أكثر تأثيرا.
كل ذلك منطلقا من حقيقة أن هناك ثأرا للبازار نفسه مع تلك السلطة الحاكمة الآن في إيران سيسعى للنيل منها، وهذا ما سأوضحه في المقال المقبل.
نقلا عن العين الإخبارية