تحقيقات

المغرب ينتصر بالواقعية: تصويت مجلس الأمن يعيد تعريف معنى الشرعية في الصحراء المغربية


في عالم السياسة الدولية، لا تُكسب المعارك دائمًا في ميادين القتال أو على طاولات التفاوض، بل في ممرات الصمت الطويلة حيث تُصاغ المواقف وتُبنى التحالفات وتُدار الأزمات بذكاء وهدوء. هذا ما فعله المغرب بالضبط في قضية الصحراء المغربية. فبعد عقود من الصراع والتجاذب الإقليمي، جاء تصويت مجلس الأمن لصالح المقترح المغربي للحكم الذاتي ليضع حدًا لمرحلة من الغموض ويفتح صفحة جديدة عنوانها الواقعية السياسية والانتصار للدبلوماسية الهادئة على الشعارات المتصلبة.

لم يكن هذا التصويت مجرد قرار أممي عابر أو مكسب دبلوماسي لحظي، بل هو لحظة فاصلة في مسار طويل من الرؤية الاستراتيجية التي قادها الملك محمد السادس منذ توليه العرش، حين أعاد تعريف السياسة الخارجية المغربية على أساس البراغماتية والوضوح والمصداقية. فمنذ البداية، لم يقدّم المغرب مقترح الحكم الذاتي كتكتيك تفاوضي، بل كمشروع وطني نابع من قناعة بأن الحل العادل لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار السيادة المغربية، مع منح سكان الأقاليم الجنوبية صلاحيات حقيقية لإدارة شؤونهم المحلية في مناخ ديمقراطي وتنموي. هذه الرؤية، التي بدت في بداياتها طموحة، أصبحت اليوم معيارًا دوليًا للحلول الواقعية.

اللافت في هذا القرار أنه لم يأتِ في زمن وفرة أو رخاء سياسي، بل في وقت يعاني فيه العالم من أزمات حادة: حرب في أوروبا، اضطرابات في الشرق الأوسط، توتر في العلاقات بين القوى الكبرى. ومع ذلك، اختار مجلس الأمن أن يمنح المغرب اعترافًا صريحًا بمقترحه باعتباره الحل الوحيد الجدي والدائم. هذا يعني ببساطة أن الرباط نجحت في إقناع المجتمع الدولي بصدق رؤيتها، وأن ثقة الدول في قدرتها على تحقيق الاستقرار أكبر من أي وقت مضى. فالمغرب لم يسعَ لفرض أمر واقع بقوة السلاح أو المال، بل بقوة المنطق والتوازن، وهذا ما يفسر الإجماع الواسع الذي حظي به القرار.

إن ما يميز المغرب في هذا الملف ليس فقط مضمونه القانوني أو السياسي، بل قدرته على إدارة المعركة الرمزية. ففي الوقت الذي تمسكت فيه بعض الأطراف بخطاب الماضي ولغة الشعارات، اختار المغرب أن يخاطب العالم بلغة الأرقام والتنمية والنتائج. مشاريع ضخمة في العيون والداخلة، ميناء الأطلسي، بنية تحتية حديثة، انتخابات نزيهة في الأقاليم الجنوبية، ومجالس منتخبة تمثل الساكنة المحلية، كلها رسائل عملية تقول إن الحكم الذاتي ليس وعدًا مستقبليًا بل واقع يتشكل بالفعل. هذه الدينامية الداخلية منحت الموقف المغربي مصداقية ميدانية لا يستطيع خصومه مجاراتها مهما حاولوا تعبئة الخطاب العاطفي.

من منظور أوسع، يعكس تصويت مجلس الأمن تحولًا في مفهوم الشرعية الدولية ذاته. فالعالم لم يعد يرى في المشاريع الانفصالية تعبيرًا عن الحرية، بل تهديدًا للاستقرار. والتجارب الحديثة، من كردستان إلى كاتالونيا، بيّنت أن منطق الانقسام يقود دائمًا إلى الفوضى. لذلك، أصبح المقترح المغربي للحكم الذاتي يتناغم مع توجه عالمي جديد يفضّل الحلول التوافقية داخل الدولة الوطنية على تفكيك الكيانات القائمة. هذا ما يجعل القرار الأممي الأخير أكثر من مجرد دعم سياسي، بل إقرار بأن السيادة المغربية على الصحراء ليست فقط قانونية بل واقعية ومؤسسة على إرادة دولية.

من جهة أخرى، لا يمكن فصل هذا الانتصار عن شخصية الملك محمد السادس الذي استطاع أن يجمع بين الحزم والهدوء، بين الدفاع عن الثوابت والانفتاح على العالم. فقد أثبتت السنوات الأخيرة أن القيادة المغربية تتعامل مع ملف الصحراء باعتباره قضية وجود لا حدود، لكنها في الوقت نفسه لم تغلق باب الحوار، بل حافظت على سياسة اليد الممدودة القائمة على الاحترام المتبادل. وهذه الاستراتيجية — النادرة في محيط مضطرب — هي التي جعلت الرباط تحظى باحترام القوى الكبرى التي رأت في المغرب شريكًا موثوقًا وليس طرفًا متصلبًا.

وفي خضم هذه التحولات، يبرز سؤال مهم: لماذا اليوم؟ لماذا قرر المجتمع الدولي أخيرًا أن يمنح ثقته الكاملة في المقترح المغربي؟ الجواب يكمن في أن المغرب بنى على مدى سنوات سردية جديدة قائمة على الفعل لا القول. لقد نقل الصحراء من كونها ملفًا سياسيًا إلى مشروع تنموي واقعي، ومن منطقة نزاع إلى مجال استثمار. وعندما يرى العالم أن السكان المحليين يعيشون في استقرار، وأن البنية التحتية تنمو، وأن الأقاليم الجنوبية تشارك في الانتخابات الوطنية، يصبح من الطبيعي أن يُترجم ذلك إلى دعم سياسي دولي.

هذا النجاح المغربي يحمل أيضًا رسالة للمنطقة بأكملها: أن الواقعية السياسية ليست ضعفًا، وأن الصبر الاستراتيجي يمكن أن يكون أقوى من الضجيج الثوري. فالمغرب راهن على الزمن بدل المغامرة، واستثمر في بناء الصورة الدولية بدل شراء المواقف العابرة. واليوم، يبدو أن هذا الرهان أثمر، لأن مجلس الأمن لا يمنح اعترافًا مجانيًا، بل يختار شركاءه بناء على المصداقية والالتزام.

ومع ذلك، لا يمكن للمغرب أن يركن إلى نشوة الانتصار، فالتصويت الأممي ليس نهاية الطريق بل بدايته الحقيقية نحو التنفيذ العملي للحكم الذاتي. هذا يتطلب توسيع نطاق التنمية في الأقاليم الجنوبية، وتعزيز مشاركة الشباب والنساء في القرار المحلي، وضمان العدالة الاجتماعية التي تجعل من الحكم الذاتي نموذجًا يحتذى به لا فقط في إفريقيا بل في العالم العربي. كما يتعين على الدبلوماسية المغربية أن تستمر في الدفاع عن هذا المكسب بكل الأدوات القانونية والسياسية، لأن خصوم الوحدة الترابية لن يتوقفوا عن محاولة التشويش على هذا المسار.

غير أن ما يميز اللحظة الحالية هو أن المغرب أصبح في موقع المبادِر لا المردود عليه. فالمجتمع الدولي بات يتبنى لغته ومفاهيمه، وهو ما يمنح الرباط مساحة أكبر لتحديد شروط المرحلة المقبلة. وفي ظل هذا السياق، يتوقع أن يتحول التركيز من الجانب السياسي للنزاع إلى الجانب التنموي، أي إلى كيفية تحويل الصحراء المغربية إلى قطب اقتصادي حقيقي يربط بين إفريقيا وأوروبا.

إن دروس هذا التصويت تتجاوز حدود الجغرافيا المغربية. إنها تذكير بأن السياسة ليست فقط صراعًا على الأرض، بل على الرواية. والمغرب اليوم يملك الرواية الأقوى لأنها تستند إلى شرعية مزدوجة: شرعية التاريخ وشرعية التنمية. لقد بنى شرعيته بعرق أبنائه، لا بشعارات الآخرين. والمجتمع الدولي، الذي تعب من صراعات الهوية والانفصال، وجد في التجربة المغربية نموذجًا للاتزان والمسؤولية.

قد لا تنتهي المعركة الدبلوماسية بين عشية وضحاها، لكن المؤكد أن المغرب ربح الجولة الأهم: جولة الثقة. فالثقة في مؤسساته، في قيادته، وفي قدرته على بناء حلول من الداخل. هذه الثقة هي رأس المال السياسي الحقيقي الذي يجعل من تصويت مجلس الأمن اليوم علامة فارقة في تاريخ المنطقة. فحين تنجح دولة نامية في فرض رؤيتها ضمن مجلس الأمن، فهذا يعني أن موازين القوة في العالم ليست حكرًا على الكبار، بل تُعاد صياغتها وفق منطق الكفاءة والمصداقية.

إن قرار مجلس الأمن ليس فقط انتصارًا للمغرب، بل انتصار لمدرسة في السياسة تؤمن أن الكرامة لا تُشترى بالصخب، بل تُكتسب بالصبر والعمل والتخطيط. والمغرب، بهذا التصويت، يعلن نهاية مرحلة الأسئلة وبداية مرحلة الأجوبة. فالعالم قال كلمته، والرباط ماضية في طريقها، بهدوء الواثق الذي لا يحتاج إلى رفع صوته ليُسمع، لأن فعله وحده يتكلم.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى