المصالح الكبرى الحاكمة للشراكة الخليجية الأمريكية


تعلم الإدارة الأمريكية الراهنة قبل أن تتولى مهامها أن العلاقات مع دول الخليج العربي تمثل ركناً ركيناً في الاستراتيجية الأمريكية الثابتة

 والتي تحتل فيها منطقة الخليج مساحة كبيرة تؤكد قوة ومتانة هذه العلاقات في إطارها العام بدون خوض في تفاصيل، أو تطورات شكلية أو جوهرية، وبالتالي فإن أي تحرك أمريكي تجاه الملفات الإقليمية -اشتباكاً أو تعاملاً- يجب أن ينطلق من معطى رئيسي ومهم، يؤكد أن الدول العربية، خاصة منطقة الخليج، ستظل منطقة استراتيجية للدولة الأمريكية، وأنه لا توجد بدائل كثيرة أمام الإدارة الأمريكية لتغيير تلك الرؤية أو استبدالها. 

   وقد ثبت أثناء إدارتي ترامب وأوباما أن أي مساحات من الخلافات والتباينات يمكن أن تُحل وتُسوى من خلال تفاهمات الحد الأدنى، وليس من خلال الصدامات التي يمكن أن تدفع الجانب الخليجي لتبني الخطة “باء” في إطار تنويع التحالفات والانطلاق إلى شراكة متعددة الأقطاب في عالم ما بعد كورونا، حيث لا تزال حالتا السيولة وعدم الاستقرار قائمتين، ومن ثم فإن التعامل يجب أن يتم على أسس من المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، والتي يجب أن تعمل في الاتجاهين ولصالح الجانبين، وليس لصالح طرف على حساب طرف آخر، ولعل هذا ما دفع الإدارة الأمريكية ورموزها للحديث الجدي عن فرص الشراكة والعمل معاً، والانطلاق لمساحات من التوافقات ومشاركة الدول الخليجية في حل وتحليل الصراعات القائمة، وعلى رأسها المسألة اليمنية بكل تطوراتها العسكرية الراهنة والتي باتت تحدث حالة من عدم الاستقرار في الإقليم، وترتبط بالأساس بنهج إيراني عدواني يسعى للتصعيد من خلال الحوثي؛ لتأكيد حضوره واعتبار الملف اليمني ضمن ملفات الإقليم، التي ستفاوض من خلالها إيران الإدارة الأمريكية على جملة من القضايا المطروحة، والمتعلقة بالملفات الخاصة بالبرنامج النووي والبرنامج الصاروخي، إضافة للسلوك الإيراني في الإقليم، وغيرها من التفاصيل المتعلقة بما هو آتٍ في المفاوضات المرتقبة بين الجانبين. 

تدرك الإدارة الأمريكية أن أي تفاهم منتظر مع إيران لن يكون على حساب المنطقة ودولها ولا تحالفاتها، وإلا فإن الإدارة الأمريكية عليها أن تتوقع نمطاً جديداً في التعامل سيقوم على فكرة المصالح المحسوبة والخيارات الحذرة المهمة في الإقليم بأكمله، ولا يمس دول الخليج العربي فقط، بل سيمس أيضاً دولاً مثل إسرائيل، وبصورة أو بأخرى الأردن ومصر ودولاً أخرى، وبالتالي فإن تحرك إسرائيل الاستباقي ومسعاها لحسم الخيارات كافة، وأن تكون طرفاً ولو بصورة غير مباشرة لما يجري هو الذي جعل رئيس الموساد يوسي كوهين ومستشار الأمن القومي جاك ساليفان يتحركان سريعاً مع نظيريهما الأمريكيين للتعرف على ما يجري ويمس أمن المنطقة، ويحدد أسس العلاقات الإيرانية الأمريكية، وليس فقط التفاوض على تفاصيل الاتفاق النووي لتسجيل مواقفه الاستباقية، وليس الوقوف في موقف رد الفعل.

  وبالتالي، فإن إسرائيل لن تصمت على أي اتفاق على حساب أمنها حتى ولو اقتضى الأمر الدخول في مواجهات انفرادية أو الاستمرار في أعمالها الاستخباراتية، واستئناف سياسة الاغتيالات.  

  والرسالة أن الإدارة الأمريكية لن تكون مطلقة الخيارات في التعامل، ومن ثم فإن العودة لطرح فكرة الحوار الإقليمي ليضم الدول المعنية سيكون جيداً ومقبولاً بعيداً عن الرفض الإيراني المسبق، خاصة أن إيران تطمح لأن يكون الخيار المطروح، عودة الولايات المتحدة للاتفاق بدون تفاصيل جديدة أو إضافة أي التزامات أو حتى ملحق إضافي، كما يرى بعض مسؤولي الإدارة، خاصة مع وجود توجه يبدو مطروحاً بقوة ببدء الإدارة الأمريكية تقديم قائمة تحفيزية لإيران مع السماح لها ببيع بعض النفط للخارج، أو العودة للآلية الأوروبية التي تم استخدامها لبعض الوقت قبل انطلاق الجانب الإيراني لممارسة مراوغاته المعتادة. 

  إذن لكي يتحقق الهدف الأمريكي تجاه إيران والحد من خطواتها الراهنة، وانتهاكاتها المستمرة لنصوص الاتفاق وأخطرها الارتفاع بعملية التخصيب إلى 20% يجب أن تحدد الإدارة الأمريكية مسارات تعاملها بصورة جيدة ومباشرة، حيث تتداخل السياسات والتوجهات التي يجب على الإدارة الأمريكية العمل من خلالها، وهو ما يتطلب العمل على مسارات متعددة وليس على مسار واحد في اتجاه إيران فقط، خاصة أن المصالح العربية الإسرائيلية قد تلتقي في عدة ملفات أخرى، ليس فقط الملف الإيراني، ومن هذا قضايا مواجهة الإرهاب وعودة التنظيمات الإرهابية للتمركز في الإقليم وتهديد أمنه، وهو ما يؤكد أن المصالح الأمريكية في المنطقة وحدود الشراكة المستمرة والقائمة يجب أن تُبنى على نموذج من العلاقات متعددة الأهداف ولصالح الجميع، خاصة أن دول المنطقة عامة لها أيضاً حساباتها وتقييماتها ورؤيتها، وهو ما نقل مؤخراً للإدارة الأمريكية التي انخرطت سريعاً في ملفات الأقاليم المختلفة، وليس في الشرق الأوسط فقط، بدليل التحرك الأمريكي العاجل تجاه الصين ومجموعة الآسيان جنباً إلى جنب التحرك تجاه إيران واليمن، وربما سيأتي لاحقاً الطرح الأمريكي الخاص بملف الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة أنه قد تم استئناف الاتصالات الدبلوماسية رسميًّا بين السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية، وهو ما سيعطي الفرصة للإدارة الأمريكية لمزيد من الانخراط في القضايا العربية والإقليمية، وعدم وضعها في مرتبة لاحقة كما توهم البعض وراهن على أن الإدارة الأمريكية ستركز على ملفات الداخل على الأقل في الـ100 يوم الأولى من عمر الإدارة الأمريكية. 

  إن للشراكة العربية الأمريكية متطلباتها التي يقرها الجانبان، وإن أي تحركات من جانب واحد قد تؤثر على نمط وتوجه هذه العلاقات، والواقع أن بيوت الخبرة ومراكز البحوث التي تتبنى خيارات التعامل مع إدارة الرئيس جو بايدن ترى أن منطقة الخليج هي بؤرة الارتكاز في الإقليم، وأن تسوية الأوضاع في الأزمة اليمنية ستؤدي لانفراج المشهد السياسي والاستراتيجي، وستعطي الفرصة للاستقرار في المنطقة بأسرها، وهو ما ينطبق على سائر الملفات الأخرى، ومنها الملف الليبي والملف السوري وملف العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، ومن ثم فإن الانخراط الأمريكي الخليجي والعمل معاً سيعطي الفرصة جيداً للحلفاء والشركاء العرب في الإقليم لممارسة دور حقيقي، واستباقي مع الإدارة الأمريكية وعدم الانتظار لما هو مطروح من جانب واحد، ووفق قاعدة رئيسية متعلقة بمسار المصالح العربية الأمريكية من جانب والمصالح الإسرائيلية الأمريكية من جانب آخر، والتي لا يمكن تجاوزها، خاصة أن الاستراتيجية الأمريكية الرسمية لا تزال تضع منطقة الخليج العربي في صدارة الاهتمامات الأمريكية الاستراتيجية والسياسية والشراكات الاقتصادية الكبرى، والتي ليس لها أي بدائل أو خيارات أخرى من أي نوع، وتتطلب التعامل معها. 

فما زالت المصالح العليا الأمريكية، وبصرف النظر عن توجهات الإدارات الأمريكية، هي الأهم وهي المستهدف، حيث لن يكون هناك أي تخلٍّ عن الارتباطات المفصلية والهيكلية بين الولايات المتحدة وحلفائها الكبار في الإقليم، بصرف النظر عن التواصل مع إيران أو إسرائيل، أو حتى تركيا، فالمصالح المشتركة ستبقى دائماً عنواناً ورمزاً لما يحكم منظومة العلاقات العربية الأمريكية. 

Exit mobile version