سياسة

المشروع الروسي.. من بوابة سوريا إلى ليبيا


لم يكن التدخل الروسي في الملف السوري سياسياً وعسكرياً مدفوعاً فقط برغبة روسية الحفاظ على حليفها النظام السوري، بل كانت تحمل موسكو معها أبعاداً من حصر وجودها وتحركاتها باتجاه منطقة الشرق الأوسط في حليفها السوري، بل كانت الأرض السورية بالنسبة إلى موسكو بمثابة بوابة العبور نحو ترسيخ وجودها في منطقة الشرق الأوسط.

عند الحديث عن أهمية سوريا لا بد من العودة إلى التاريخ، فقد كانت سوريا قلب الشرق الأوسط، الذي هو منذ فجر التاريخ عقدة المواصلات العالمية، وتتصارع عليه آنذاك قوى ثلاث هي عماده: بلاد ما بين النهرين والأناضول ومصر. وكان من يستطيع السيطرة على الشرق الأوسط يتمكن من فرض سيطرته على العالم، ووجب على القوة التي تبغي السيطرة على الشرق الأوسط أن تسيطر على سوريا.

من هنا سعت القوى الكبرى المتنافسة عبر التاريخ لبسط سيطرتها على أكبر مساحة في الشرق الأوسط حتى تستطيع أداء دور عالمي، وحصتها منه تتحدد بوضع اليد على أحد النطاقات الجيو – سياسية آنفة الذكر مع بسط سيطرتها على أجزاء من سورية.

ولقد كانت القوة التي تستطيع فرض سيطرتها المطلقة على الشرق الأوسط تتحدد بالسيطرة على نطاقين جيو – سياسيين من النطاقات الثلاثة آنفة الذكر وبسط سيطرتها كاملة على سوريا.

وعليه تمكن الأشوريون أوائل الألف قبل الميلاد من فرض هيمنة عالمية بمعايير تلك الأيام عبر السيطرة على سوريا، ما أتاح لهم السيطرة على كل من الأناضول ومصر، ولكن تفكك دولتهم أدى إلى صعود ثلاث قوى إقليمية في الشرق تصارعت جميعها على سوريا.

وبالتالي فإن تثبيت روسيا وجودها السياسي والعسكري في سوريا والتغيير الذي أحدثته في ميزان القوة لصالح حليفها النظام السوري ما بعد تدخلها العسكري في عام 2014، ربما يمكن القول إن النموذج الذي أرست روسيا قواعده في سوريا لم يكن محصوراً فقط على الجغرافية السياسية، بل إن هناك رغبة روسية العمل على استنساخ هذا النموذج إلى ملفات عديدة تعيش حالة مشابهة للوضع في سوريا، وأيضاً هناك رغبة روسية في أن تؤسس من سوريا قاعدة انطلاق وترسيخ ملامح نموذجها الذي تحاول الاتجاه به نحو منطقة الشرق الأوسط.

نجحت روسيا في سوريا بفضل عامل مهم، وهو التراجع الحاصل في السياسة الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط باتجاه منطقة شرق آسيا، حالة التردد والضعف والخطوط الحمراء التي أثبتت فشلها في إدارة أوباما جميعها عوامل أسهمت في تمهيد الطريق نحو ترسيخ الوجود الروسي في الأراضي السورية، وأيضا التراجع الأمريكي لا ينحصر فقط على سوريا، بل يمتد إلى كامل منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فهذا التراجع الأمريكي تسعى روسيا للاستفادة منه وتوظيفه لمصلحة تثبيت وجودها في المنطقة، وبخاصة أنه ليس هناك من لاعب قادرة على ملء الفراغ الأمريكي سوى روسيا التي أثبتت صحة ذلك في الملف السوري.

العامل الآخر الذي أسهم في تمهيد الطريق أمام الروس لتثبيت وجودهم في سوريا هو غياب المشروع العربي، فعندما ننظر للحالة العربية نجدها تقف عند حدود خطاب التنديد والاستنكار في التعامل مع الملف السوري، ما جعلها تخسر في أن تعمل على قلب موازين القوى في الداخل السوري لصالح تثبيت وجودها، وفشلت في خلق مشروع عربي يحل محل المشروع الروسي أو على أقل تقدير ينافسه في الأرض السورية، وأيضا خروج سوريا من الجامعة العربية قطع الاتصالات بين الجامعة العربية والدولة السورية، وفي ظل ضعف البديل وهو المعارضة السورية، وهو ما خلق عراقيل أمام المشروع العربي.

وبالتالي يمكن القول إن ما حدث في سوريا من تثبيت روسيا لوجودها السياسي والعسكري وإرساء ملامح قواعد مشروعها في التعامل مع الأزمات العربية ومحاولة قلب الموازين على الأرض والدفع باتجاه خلق حالة من الهدوء بدلاً من التصعيد، شجع الروس على عدم الاكتفاء بالملف السوري، بل أعطاهم مزيدا من الحيوية نحو محاولة استنساخ النموذج الذي حقق نجاحا في سوريا إلى ملفات أخرى عبر البوابة الليبية.

وبالتالي فإن الدخول الروسي إلى الملف الليبي قد ينطبق عليه معايير الدخول الروسي إلى الملف السوري، وبذلك فإنها مستمرة في استغلال حالة التراجع الأمريكي عن الشرق الأوسط والتردد العربي في حسم الأمور وتوظيف ذلك لمصلحتها، وهو ما يرسخ وجودها السياسي في المنطقة كطرف مهم في التسوية السياسية للصراعات، وبالتالي فإن ‏الدور الروسي لا يمكن التقليل من أهميته وتأثيره في منطقة الشرق الأوسط، ولعل ما يميز الدور الروسي عن الدور الأمريكي أن ‎روسيا في تعاملها مع ملفات منطقة الشرق لا يحكمها التردد ولا تميل لصالح إدارة الملفات، بل تميل لصالح ترسية قواعد الحل التي تسهم في التوصل إلى التسوية السياسية، وبذلك فإن ‏وجود ‎روسيا في ليبيا كطرف دافع باتجاه الحل السياسي يقطع الطريق أمام محاولة إطالة أمد الأزمة، لكن هذا يكشف جانبا آخر من الفشل العربي الذي أثبت عجزه عن تثبيت وجوده بالأمس في ملف ‎سوريا واليوم يتجه للانحسار في ملف ‎ليبيا، ‏وأخيراً فإن رعاية ‎روسيا وقف إطلاق النار في ‎ليبيا يعكس مدى فاعلية السياسة الروسية وتأثيرها والتي استطاعت أن تتخطى خطابات المناشدة لإرساء قواعد وقف إطلاق النار، وهو ما يؤهل روسيا لأن تكون طرفاً يحظى بالثقة في تسوية وحلحلة صراعات المنطقة سياسياً.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى