العلاقات الجزائرية الفرنسية.. من البرود إلى شفير أزمة؟

تنتهج فرنسا سياسة الشد والجذب مع الجزائر في الأزمة المتصاعدة بينهما بعد تبادل طرد 12 موظفا قنصلية في حلقة جديدة من مسلسل الإجراءات الانتقامية بين الطرفين، إذ أكد وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو الأربعاء على ضرورة معاودة الحوار “على المدى الطويل” مع الجزائر التي تلقي باللوم بدورها على وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو معتبرة أنه “يتحمل المسؤولية الكاملة” عن عودة التوتر بعد فترة هدوء لم تدم طويلا.
-
مشروع قانون لإلغاء النسخة الفرنسية من الجريدة الرسمية في الجزائر
-
الخطوط الجوية الجزائرية تنخرط في الأزمة السياسية مع فرنسا
وفي غضون ثماني وأربعين ساعة، وصلت الأزمة بين باريس والجزائر إلى مستوى غير مسبوق من الخطورة. وأتى ذلك غداة قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرد 12 موظفا قنصليا جزائريا، ردا على إجراء مماثل اتخذته الجزائر، بعد أسبوعين فقط من طي صفحة الخلافات بين البلدين.
وبحسب صحيفة لوموند لم تشهد العلاقات الفرنسية الجزائرية منذ عام 1962 مثل هذا التدهور، وهو ما يشكل أحد أعراض الفجوة النفسية بين عاصمتين لم تعد تتفاهمان.
وتكمن الخطورة في أن الإعلان عن موقف باريس المتشدد جاء من إيمانويل ماكرون نفسه، الرئيس الأكثر “تأييداً للجزائر” الذي عرفته الجمهورية الخامسة على الإطلاق.
-
الجزائر تشعل أزمة مع باريس لصرف الأنظار عن أزماتها الداخلية
-
الجزائر تضغط على فرنسا عبر ورقة إمدادات الطاقة
واشتعلت الأزمة من جديد بين البلدين. عندما ردت الجزائر على توقيف الموظف القنصلي في باريس بتهم محاولة خطف مؤثر جزائري لاجئ في فرنسا، بطرد 12 موظفا في السفارة الفرنسية والقنصليات الملحقة بها تابعين لوزارة الداخلية.
واستدعت باريس سفيرها في الجزائر ستيفان روماتيه للتشاور، ووصفت الرئاسة الفرنسية في بيان، قرار الجزائر بطرد 12 موظفا في السفارة الفرنسية “غير مبرر وغير مفهوم”، مشيرة إلى أنه “يتجاهل الإجراءات القضائية الأساسية”.
موقف باريس المتشدد جاء من إيمانويل ماكرون نفسه الرئيس الأكثر “تأييداً للجزائر” الذي عرفته الجمهورية الخامسة على الإطلاق
ويمثل هذا التطور حلقة جديدة في الأزمة المستمرة منذ أشهر بين البلدين، والتي تغذيها قضايا مثل الهجرة ومطالبة باريس الجزائر باستعادة المهاجرين غير النظاميين والدعم الفرنسي لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية للصحراء وسجن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في الجزائر.
وعلقت صحيفة لوموند الفرنسية على هذه الأزمة قائلة، أنه من خلال استدعاء سفيرها في الجزائر “للتشاور”، تنضم فرنسا إلى الجزائر في قائمة “الكرسي الشاغر”، والتي كانت قد “سحبت” بالفعل سفيرها في باريس في 30 يوليو/تموز 2024، في أعقاب التحول الفرنسي المؤيد للمغرب بشأن الصحراء.
ومع غياب رؤية واضحة بشأن قطع العلاقات الدبلوماسية، وهو أمر يصعب الاستمرار فيه بمرور الوقت نظراً للتداخل بين المجتمعين، فإن العلاقات الثنائية سوف تدخل في حالة طويلة من السبات، وهو شرط أساسي لإعادة تقييم العلاقات بين البلدين.
-
فرنسا تلوح باتخاذ إجراءات ضد الجزائر بسبب ملف المرحلين
-
التوتر يتصاعد.. الجزائر تتهم فرنسا بمحاولة زعزعة أمنها
في المقابل ترى الجزائر أن المسبب الرئيسي للأزمة هو وزير الداخلية وهاجمت وزارة الخارجية في بيان “التصرف المشين لروتايو الذي “يجيد الممارسات القذرة لأغراض شخصية بحتة”. مشيرة إلى أن توقيف موظف قنصلي جزائري ليس “الا نتيجة للموقف السلبي والمخزي المستمر لوزير الداخلية الفرنسي تجاه الجزائر”.
وصرّح كاتب الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية، المكلف بالجالية الوطنية بالخارج سفيان شايب، الأربعاء، لدى استضافته في برنامج ضيف اليوم للقناة الإذاعية الثالثة “الجزائر أخذت علما ووعيا بالقرار الذي اتخذته باريس والمتمثل في استدعاء سفير فرنسا بالجزائر للتشاور، ومطالبة 12 موظفا قنصليا ودبلوماسيا بمغادرة التراب الفرنسي، لكن لم تتوفر لدينا بعد كل التفاصيل الدقيقة حول الأشخاص المعنيين بهذا القرار الجديد الذي نأسف له”.
كما ذكر شايب بمضمون البيان الأخير الذي “تم فيه توضيح قدرة الجزائر في إطار رد حازم، على اتخاذ تدابير جديدة استنادًا إلى مبدأ المعاملة بالمثل.”
وفي رده عما إذا كان قصر الإليزيه قد خضع لضغوط اليمين المتطرف الفرنسي، أكد شايب أن “الأزمة والتوتر الحاليين هما نتيجة لمؤامرة وتمثيلية وقضية مفبركة بالكامل من قبل وزير داخلية لم يكتفِ بصناعتها، بل أعاد إحياء قضية تعود إلى أكثر من ثمانية أشهر، وتتعلق باختطاف مزعوم لشخص استخدم للأسف لتقويض علاقاتنا الثنائية والديناميكية التصاعدية التي أرادها رئيسا البلدين”.
وشدد على أن “دور هذا الوزير قد تم التنديد به وتحديد مسؤوليته في بياننا، حيث وُضعت الأمور في نصابها فيما يخص هذه الأزمة الجديدة”.
وبرونو روتايو شخصية بارزة من اليمين الفرنسي ويقود حملة انتخابية لتولي قيادة حزب الجمهوريين، وقد أصبح في الأشهر الأخيرة يجسد النهج المتشدد حيال الجزائر، وخصوصا في القضايا المتعلقة بالهجرة.
ورأى عبدالله أكير الباحث في العلاقات الدولية أن “وزارة الخارجية محقة لما ذكرت وزير الداخلية بالاسم باعتباره سبب الأزمة، ولا يعتبر هذا تدخلا في الشأن الداخلي الفرنسي بقدر ما هو تحديدا للمسؤولية”.
وتفاقم الوضع ببروز مشاكل أخرى كتوقيف الروائي الفرنسي-الجزائري بوعلام صنصال وإدانته بالسجن خمس سنوات بتهمة المساس بوحدة الوطن، ثم خلافات متعددة متعلقة بالهجرة.
وفي كل مرة برز اسم برونو روتايو، المتهم بالسعي إلى “تخريب” العلاقات مع الجزائر، فمنذ أصبح وزيرًا، “استهدف ريتايو الجزائر بطريقة مباشرة جدًا”، ما تسبب في “مواجهة وتحدّ” بين هذا البلد وبينه، على ما أوضح أستاذ الجيوسياسة عدلان محمدي، مضيفا أن النظام الجزائري استغل القضية بدوره ليجعله “هدفا” لردوده.
ورأى محمدي أن الجزائر تتفادى بذلك استهداف “الدولة الفرنسية ككل” في هذه الأزمة، وتسعى “للحفاظ على نوع من هامش المناورة” لتقول: نريد الحفاظ على قناة للحوار مع الإليزيه (الرئاسة الفرنسية) ومع وزارة الخارجية، لكن كل ما يتعلق بوزارة الداخلية يسبب لنا مشكلة”.
وأشار الوزير الفرنسي أيضا إلى الجزائر بعد هجوم دام في 22 فبراير/شباط في فرنسا نفذه جزائري فرضت عليه السلطات مغادرة ترابها، ورفضت الجزائر مرات عدة استعادته.
وعلى أرضع الواقع، كانت المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الجزائري والفرنسي، عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون في نهاية آذار/مارس، بعثت الأمل في حصول مصالحة.
وتساءل الوزير الأسبق والدبلوماسي الجزائري عبد العزيز رحابي على منصة أكس عن مغزى هذا التمييز الذي قام به “جزء من (الجزائريين)” بين روتايو وماكرون.
فهو لا يرى أن ثمة “اختلافا جوهريا” بين الرجلين “بل بالأحرى توزيع حكيم للأدوار”، بطريقة الشرطي الجيد، الشرطي السيء”.
-
تحالف صحراوي يفضح سطو بوليساريو على مساعدات المخيمات
-
الولايات المتحدة تجدد دعمها لمغربية الصحراء عبر سفيرتها في الجزائر
هل هناك أي اختلاف في المواقف بين ماكرون وريتلو؟
في الأزمة الحالية بين الجزائر و باريس، لا أعتقد منذ البداية أن هناك اختلافا جوهريا في الرّأي – وهو ما يرجحه بعض أبناء بلدي – بين الرئيس ماكرون ووزير داخليته، بل هناك توزيع أدوار محكم. يتجلى هذا الأمر بشكل أوضح في سياق فرنسي يتسم…
— @AbdelazizRahabi عبد العزيز رحابي@ (@AbdelazizRahabi) April 15, 2025
وأكد عبد الله أكير إنه “يصعب القول إن وزير الداخلية روتايو يتصرف من تلقاء نفسه ومن دون علم وموافقة رئيس الوزراء والرئيس ماكرون“.
ومع ذلك رأى أن استهداف روتايو وانتقاده مباشرة هو من جهة أخرى “رسالة للرئيس الفرنسي لاتخاذ ما يراه مناسبا لتفكيك الالغام التي يزرعها الوزير روتايو في طريق التهدئة والعودة بالعلاقات بين فرنسا والجزائر نحو مسارها الطبيعي”.
واعتبر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية برونو فوكس أن وجود جناحين، معتدل ومتطرف، ينطبق أيضا على السلطة الجزائرية في نظرتها وتعاملها مع فرنسا.
-
باريس تمهّد لتخفيف التوتر مع الجزائر بتخصيص يوم لذكرى مجزرة 1961
-
الجزائر تفشل في تغيير موقف مدريد من مغربية الصحراء
وقال “في الجزائر، الموقف تجاه فرنسا ليس متجانسًا، من جهة هناك المؤيدون للحوار ومن جهة أخرى هناك المؤيدون للاتجاه المتشدّد. يبدو أن أنصار الخط الصارم يحاولون إفشال عملية العودة إلى تطبيع جديد”.
وهذه فرضية معقولة بحسب عدلان محـمدي، حتى وإن حاول النظام الجزائري “إخفاء” ذلك. لكن هل يمكن للعلاقات الجزائرية الفرنسية أن تستقيم مجددا بعد هذه الهزّات؟
وقال محمدي الحريص على عدم ابداء تفاؤل كبير لأن الخلافات مثل تلك المتعلقة بالصحراء المغربية “لا رجعة فيها”، فإن “البلدين ليس لهما مصلحة في القطيعة التامة” وأن الحوار يمكن أن “يُستأنف”.
كذلك رأى اسماعيل معراف أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة الجزائر أن “المصالح الاستراتيجية العليا بين البلدين وحساسية الملفات التي لا تظهر للعلن تجعلنا لا نستبعد أن تعود العلاقات إلى طبيعتها قريبا”، مؤكدا أنه غير مؤمن بتاتا بفرضية “القطيعة” بين البلدين.
والأربعاء، عاد وزير الخارجية الفرنسي جان نوال بارو للتأكيد أنه حتى لو ردت باريس “بحزم” على القرارات الجزائرية، فسيكون من الضروري “على المدى الطويل” استئناف الحوار “لصالح الفرنسيين”.
ودافع وزير الخارجية الفرنسي عن نهجه بعدما تعرض لانتقادات في بلاده اعتبرت موقفه معتدلا.
وقال بارو في تصريح لإذاعة “فرانس انتر” الأربعاء إن “الحوار هو السبيل الوحيد لحل التوتر بشكل مستدام” معتبرا أن من يدعو إلى غير الحوار “غير مسؤول”.
-
الجزائر في فضيحة تهريب شاب إلى فرنسا في غرفة عجلات طائرة
-
لحوم الحمير تثير ضجة في الجزائر.. ومطالب بمحاسبة المسؤولين
وأضاف بارو الذي زار الجزائر في مطلع أبريل/نيسان، بعد أيام قليلة من اتصال هاتفي بين الرئيس إيمانويل ماكرون ونظيره عبد المجيد تبون، “إن أردنا نتائج للفرنسيين يجب علينا يوما ما أن نعود إلى حوار صريح وواضح” مع السلطات الجزائرية.
وأوضح بارو “لدينا مصلحة في إقامة علاقة طبيعية مع الجزائر والخروج من التوتر لكي نتمكن من ترحيل الجزائريين المقيمين بطريقة غير نظامية وإقامة حوار في مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب والنجاح في الإفراج عن مواطننا بوعلام صنصال المعتقل تعسفيا في الجزائر”.
واضاف “أؤمن بإمكان حصول لفتة إنسانية” في حين أن الحالة الصحية للكاتب الثمانيني المسجون منذ خمسة أشهر والمحكوم عليه بالسجن خمس سنوات في الجزائر، حرجة للغاية.
-
لماذا تواصل الجزائر احتجاز رفات مغربي قتلته عمدا بعد أن دخل مياهها خطأ؟
-
عن سنوات الاستعمار.. ماكرون: لن أعتذر للجزائر
وقد ناشدت ابنتاه ماكرون السعي لإطلاق سراحه فورا، في مقال نشر على الموقع الإلكتروني لمجلة “فيغارو” الثلاثاء.
وأكد بارو الذي من المقرر أن يتوجه إلى مرسيليا الأربعاء للقاء الجالية الجزائرية في فرنسا، أن “الفرنسيين الجزائريين والفرنسيين الذين لديهم روابط مع الجزائر يشكلون فرصة لفرنسا ولا ينبغي لهم أن يتحملوا تبعات هذا التوتر بين بلدينا”.
وتثير القضية الجزائرية انقساما في أوساط الطبقة السياسية الفرنسية، ويدعو كل من اليمين واليمين المتطرف إلى “الحزم الحاسم”، على غرار النائب اليميني المتطرف جان فيليب تانغي الذي انتقد سياسة فرنسا “غير الواضحة” عبر محطة ” بي.أف.أم” مساء الثلاثاء.
-
نجاح ديبلوماسي.. المغرب يكسب معركة عزل بوليساريو دوليا
-
تزايد المطالب الشعبية في الجزائر ضد مخططات الإخوان
في المقابل، دعا النائب اليساري المتطرف إريك كوكريل إلى الاعتدال. وقال لإذاعة “ار.تي.ال” إن “من مصلحتنا أن تكون لدينا علاقات مُرضية مع جيراننا الذين تربطنا بهم علاقات كثيرة”.
ومنذ الاستقلال، تقيم فرنسا والجزائر علاقات مضطربة ومتشابكة جدا، نظرا خصوصا إلى حجم الجالية الجزائرية الكبير في فرنسا.
ويبدو أن المكالمة الهاتفية التي جمعت بين تبون، وماكرون نهاية مارس المنصرم، و الزيارة الاخيرة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي الى الجزائر لم تساهم في عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين والتي تعكرت بسبب الدعم الفرنسي الصريح لسيادة المغرب على الصحراء.