سياسة

السعودية والعراق.. ماضياً وحاضراً ومستقبلاً


حطَّ رحالُ رئيس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي، في السعودية، بحثاً عن مستقبلٍ أفضل للعراق وشعبه.

 بإعادة بناء العلاقات مع عمق العراق الاستراتيجي في السعودية ودول الخليج، وتأصيل انتمائه العربي العميق بعيداً عن مغامرات المغامرين وطموحات المحتلين.

حفاوة الاستقبال السعودي تعبير عن الترحيب السعودي الدائم بالعراق، وعمق العلاقات المشتركة الكبرى بين بلدين شقيقين، والرغبة الملحة لدى الجانبين في بناء مستقبلٍ أفضل للمنطقة يكون لائقاً بالعراق ومكانته وتاريخه وشعبه، وحصد نتائج مجلس التنسيق السعودي بمشاريع مهمة وواقعية واستثماراتٍ ناجحة تدر خيراتها على الدولتين والمنطقة بكاملها، وكانت إحدى نتائج هذه الزيارة إعلان صندوقٍ مشتركٍ برأس مالٍ يقدر بثلاثة مليارات دولار.

ماذا يريد العراق من السعودية؟ يريد المساعدة في انتشاله من الأوضاع التي لا تتناسب مع أهميته ومكانته، واستعادة عافيته وسيادته وهيبته، وماذا تريد السعودية من العراق؟ تريده أن يعود دولة مستقرة قوية كما هو هدف السعودية الدائم، دعم “استقرار الدول”، ورفض استراتيجيات نشر “استقرار الفوضى” التي تتبناها المشاريع المعادية للدول العربية في المنطقة.

رمال السياسة المتحركة في الشرق الأوسط لا تهدأ ولا تسكن، فالمنطقة مليئة بالتشابكات والتعقيدات على مستوياتٍ متعددة محلياً وإقليمياً ودولياً، تتعايش فيها عصور التاريخ المتباعدة في لحظة الواقع مع صنوف الأديان والآيديولوجيات والأعراق، وتختلف فيها المطامح والمطامع وتتناقض الأهداف والغايات.

الشرق الأوسط من أكثر مناطق النزاعات والصراعات على مستوى العالم، ليس في الحاضر فحسب، بل لأزمنة مديدة مضت، ومنذ عقودٍ وهي في حالة موارٍ دائم وتقلبات مستمرة وتياراتٍ متناقضة، وأحوالها في تغيير مستمرٍ صعوداً وهبوطاً، حسب متغيرات المعطيات والظروف، وتاريخ العراق الحديث يعد مثالاً يشمل كل ما سبق بتفاصيل لا تنتهي وجزئيات لا يمكن التغافل عنها.

العراق موطن حضاراتٍ قديمة، بابلية وسومرية، وبعد الإسلام كان مقر أكبر الصراعات في القرن الهجري الأول، ثم عاصمة الحضارة العربية والإسلامية لقرونٍ طويلة مع الخلافة العباسية التي استمرت تقود العالم من الهند وأواسط آسيا إلى المحيط الأطلسي، وجرت في تاريخه أحداث أثرت على المنطقة والعالم وصولاً إلى اليوم.

مشكلات العراق ليست صغيرة ولا سطحية، إنها مشكلات تتعلق بهويته وانتمائه، بسيادته واستقراره، باستقلاله وهيبته، وبعد هذا بمستقبله وغاياته، وهو اليوم نموذج لدول “استقرار الفوضى” و”الإسلام السياسي” و”الفساد الممنهج”، وهذه مشكلات تحتاج إلى الكثير من الجهد لحلها والخلاص من تبعتها، وأولى طرق العلاج هي الاعتراف بالمشكلات، ثم التخطيط والشروع في تبني الحلول وبناء التحالفات الناجحة.

منذ عام 2003 وبداية الحكم الجديد في عراق ما بعد صدام حسين أصبح “استقرار الفوضى” هو السائد في العراق، تحديداً بالتدخلات الإيرانية القوية والصارخة التي مثلت استعماراً جديداً هو “الاستعمار الخفي” بصيغة تختلف عن الاستعمار التقليدي، وهي تمت بعدما فشلت استراتيجية الخميني في “تصدير الثورة” بالحرب المباشرة وتبني خامنئي لاستراتيجية استعمار الدول عبر “الأحزاب” و”الجماعات” و”التنظيمات” الداخلية العميلة، وعبر دعم جماعات الإرهاب السنية مثل تنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش”.

تم في العراق بناء نموذج لحكم “الإسلام السياسي” يختلف عما سبقه من النماذج في إيران ونظام الولي الفقيه، وفي أفغانستان وحكم “طالبان”، وفي السودان وحكم “الإخوان المسلمين”، وهو دليل على قدرة خطابات الإسلام السياسي وآيديولوجياته وتنظيماته على التعايش مع الظروف وتطوير نماذج جديدة قابلة للعيش والتأثير.

العراق – كذلك – هو نموذج للدولة الغنية التي تم إفقارها بشكل منظمٍ عبر “الفساد الممنهج”، وله مسارات متعددة، منها تحميل الاقتصاد العراقي كل أزمات المستعمر الإيراني الخفي الاقتصادية، وتفنن النخب السياسية الموالية له داخل العراق في نهب ثروات البلاد بكل الأشكال الممكنة، مع إضافة أن هذا الفساد الممنهج كان يتم تبريره دينياً وآيديولوجياً تحت شعارات الإسلام السياسي التحريضية والحماسية.

كان لافتاً زيارة الضيف العراقي الكبير مع ولي العهد السعودي للدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، فقد تم استخدام العراق إبان الاحتلال العثماني أكثر من مرة لاستهداف الدولة السعودية الأولى آنذاك، وفشل العثمانيون لا العراقيون في ذلك فشلاً ذريعاً، والتاريخ لا يعيد نفسه، وسيفشل أي محتلٍ جديدٍ في توظيف العراق ضد أشقائه وعمقه العربي، وإبان الاحتلال البريطاني هرب الزعيم العراقي رشيد عالي الكيلاني، ولجأ إلى الملك عبد العزيز، فوجد المأوى والنصرة، وهو ما زال حاضراً في ذاكرة العراقيين والعرب.

كانت مغامرة صدام حسين غير المحسوبة باحتلال الكويت واستهداف السعودية ودول الخليج هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وبدأت معها رحلة سقوط نظام صدام حسين التي تمت في 2003، ومثلت نكران الجميل بالدعم غير المحدود الذي قدمته دول الخليج للعراق في مواجهة النظام الإيراني في حرب الخليج الأولى التي استمرت لثماني سنواتٍ كانت ثروات دول الخليج هي الرافد الأهم لمواجهة “تصدير الثورة” الخمينية للعراق.

ثمانية عشر عاماً بعد سقوط حكم صدام حسين عايش فيها العراق واحدة من أسوأ فترات تاريخه الحديث، وأصبح ملعباً للصراعات الدولية بكل الوسائل الناعمة والخشنة، وتفشت فيه تنظيمات الإرهاب وميليشياته، وقام بعض مسؤوليه بدعم الإرهاب وتسليمه مليارات الدولارات والأسلحة الحديثة، وتسهيل استحواذ هذه التنظيمات على مساحات شاسعة منه تنفيذاً للاستراتيجية الإيرانية في العراق والمنطقة ما أوصل العراق إلى الأوضاع الحالية التي يئن من وطأتها الشعب العراقي، ولا يجد العون والدعم إلا في عمقه العربي وفي السعودية وحلفائها من الدول العربية الداعمة للاستقرار والاعتدال.

أكد البيان المشترك الصادر من البلدين بعد الزيارة على “استمرار وتعميق أوجه التعاون والتنسيق بينهما بما يخدم المصالح المشتركة في مختلف المجالات، لا سيما السياسية والأمنية والعسكرية والتجارية والاستثمارية والثقافية والسياحية، مشيدين بإنجازات المجلس التنسيقي العراقي السعودي وما تمخض عنه من اتفاقيات ومذكرات تفاهم”، وهذه ملفات بالغة الأهمية لرسم أي مستقبلٍ يتجاوز مشكلات الماضي وتحديات الحاضر في هذه الملفات كافة.

أخيراً، فليس للعراق مستقبلٌ إلا مع عمقه الاستراتيجي العربي ورفضه لأي استعمارٍ خفي واحتلالٍ أجنبي واستنزافٍ لخيراته وثرواته، بخاصة مع توجهات السيد مصطفى الكاظمي المدعومة بوعي كبير لدى الشعب العراقي بمعرفة أصدقائه وأعدائه في المنطقة.

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى