سياسة

“الجواني والبراني”


في عام 1964، نشر الدكتور عثمان أمين كتابه “الجوانية: أصول عقيدة وفلسفة ثورة”، قدم فيه رؤية فلسفية عميقة.

حول أن الإصلاح والتغيير على جميع المستويات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والحضارية ينبغي أن ينبع من الداخل، ولا يُفرض من الخارج، أي أن تكون عملية الإصلاح “جوانية” وليست “برانية”، تركز على الداخلي والقلبي والإنساني الوجداني، وتنبع من الذات الحضارية، ولا يتم فرضها من الخارج سواء بالإملاء أو التقليد. وعثمان أمين فيلسوف عميق التفكير، جمع بين فلسفة الشرق والغرب؛ فقد ذهب إلى فرنسا بعد أن تخرج في جامعة القاهرة عام 1930، حيث حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في موضوع عن الأستاذ محمد عبده رحمة الله عليهما.

والجواني والبراني كلمتان فصيحتان، متعاكستان، الأولى تعني الداخلي والباطني، والثانية تعني الخارجي والظاهري، وفي الحديث الشريف “إِنَّ لكلِّ امرئ جَوَّانِيًّا وبَرَّانِيًّا، فمن أَصلح جَوَّانِيَّهُ أَصلح اللهُ بَرَّانِيَّهُ”، وفي الوقت نفسه هما كلمتان دارجتان في العامية المصرية، حيث يستخدم الجواني للتعبير عن الداخلي جغرافياً، فيقال الصعيد الجواني؛ وهو أقصى الجنوب؛ تمييزاً له عن الصعيد القريب من القاهرة، ولكن لا يقال الصعيد البراني، لأن هذه الكلمة تعني في الوعي الشعبي، الخارجي، أو الأجنبي أو المغشوش، أو المزيف، وكانت تستخدم للتعبير عن السلع المستوردة أو المصنعة بصورة غير متقنة، أو تطلق على العملة المزيفة، فيقال على كل ذلك أنه شيء براني.

ومن هنا استقر في وعي المجتمع أن الشيء البراني مغشوش، ولا يعتمد عليه، وغير مستدام، وما ينفق فيه ضائع، فهو بضاعة خاسرة، وبعد انقلاب الحال في الصناعة المحلية مع عصر الانفتاح المشؤوم في سبعينيات القرن الماضي، أصبح الناس يفضلون المستورد من السلع، ولكن ظلت كلمة البراني تطلق على المغشوش منها والفاسد وغير المتقن. كذلك استمرت كلمة البراني تصف الأخلاق الفاسدة، والطبع السيئ، وغير الأصيل من البشر.

والجواني والبراني منهجان متناقضان في الإصلاح الاجتماعي والسياسي، فالجواني يقوم على الإصلاح من الداخل بالتدريج، وبآليات متناسبة مع الواقع الإنساني، وغير متسرعة أو فجائية أو عنيفة، وهو منهج للإصلاح يعتمد على الإنسان، ويبدأ به، وينطلق منه، ويسعى لتحقيق أهداف المجتمع الذاتية، وتلبية احتياجاته الخاصة، أما البراني فيقوم على الفرض من الخارج، بآليات مستعجلة، وغالباً ما تكون عنيفة ومدمرة، ولا تراعي الإنسان أو المجتمع، وتكون أهدافه مفروضة من نخبة منعزلة عن المجتمع وقواه الحقيقية، أو من طرف قوى خارجية، ولتحقيق أهداف ومصالح غرباء عن المجتمع سواء أكانوا دولاً أو جماعات وأحزاباً.

وفي السنوات العشر الأخيرة، شهدت العديد من المجتمعات العربية محاولات للتغيير بدأت جوانية وانتهت برانية، لأن الجماهير التي أطلقتها جوانية التفكير والهدف، والنخب التي قادتها برانية الفكر والتكوين والتوجه والمصالح، مربوطة من قلوبها أو من جيوبها بقوى ومصالح إقليمية ودولية. لذلك كان مصير محاولات التغيير هذه الفشل، والنهاية المأساوية التي كان حصادها الخراب والدمار وتفكيك المجتمعات والدول. ثم تحولت هذه النخب الفاشلة الفاسدة في معظمها إلى الإقامة في العواصم التي تمولها وتوظفها لتحقيق أهدافها؛ حتى ولو كانت أهداف تلك العواصم مناقضة أو معادية لمصالح أوطانها، ولكن تلك النخب البرانية تعنيها في المقام الأول المصالح الخاصة بها، وإن غلفتها بغلاف جميل من المبادئ الوطنية والدينية والإنسانية.

يعلمنا التاريخ أن محاولات الإصلاح أو التغيير من الخارج هي ضرب من الخيال، وتعلق بحبال الوهم الواهية، وأنه لم يتحقق ذلك الإصلاح أو التغيير إلا إذا كان الجواني منه أكبر بكثير جداً من البراني، أي أن تكون القوى الدافعة له، والمتعلقة به من الداخل الوطني أكبر وأعظم بمئات المرات من النخب المقيمة في الخارج، بل إن حركات الاستقلال عن الاستعمار التقليدي لم تنجح إلا بعد أن أصبحت قواها الجوانية هي الأساس، وليست نخبها البرانية. ولعل نموذج العراق بعد 2003 يقدم حالة تستحق الدراسة تبين كيف ولماذا فشلت النخب البرانية في تحقيق أي تغيير حقيقي في الدولة العراقية بعد سقوط نظام البعث، لأن النخبة التي قادت التغيير هي في مجملها نخبة برانية، ولا تزال كذلك، ترتبط بقوى دولية وإقليمية أكثر من ارتباطها بالمجتمع الوطني، وقواه الحية والفاعلة.

وفي هذا السياق، ينبغي أن يتم فهم واستيعاب ما حدث وما سوف يحدث للمجموعات المقيمة خارج مصر في عواصم كانت تناصب الدولة المصرية العداء، وكانت هذه المجموعات جزءاً من آلة الحرب الإعلامية على مصر، وبمجرد أن بدأت بوادر التفاهم بين تلك العواصم، وبين الدولة المصرية كان أول شيء تتم التضحية به هو هذه المجموعات البرانية التي ملأت الدنيا ضجيجاً، وأرهقت الشعب بالشائعات الكاذبة، وظلت تعمل طوال السنوات الثماني السابقة على محاولات إسقاط الدولة، وإفشال مؤسساتها، وتدمير مصالح الشعب، ونشر ثقافة الإرهاب والعنف والقتل العبثي، وإعاقة كل محاولات الإصلاح والتطوير والتنمية التي تحدث.

لقد كان مصير هذه الكيانات البرانية الفشل الذريع، وكان حصادها البؤس المريع، وأصبح أعضاؤها مهددين بالتيه الكبير في الأرض، بعد أن تخلى عنهم الراعي والممول، وصاروا ورقة رخيصة على طاولة المفاوضات لتحقيق مصالح من كان يوظفهم.

تابعونا على

Related Articles

Back to top button