التكلفة الاقتصادية لسياسات أردوغان
عانت تركيا من عدم الاستقرار المالي والنقدي بسبب تدخل أردوغان في القرارات المتعلقة بهذا الشأن وإخضاعها لاعتباراته السياسية .
لم تكن سياسات الرئيس أردوغان في الخارج والداخل بدون تكلفة على الشعب التركي، فقد أدَّت سياسات التوسع في الخارج وسياسات الانفراد بالسلطة في الداخل إلى تدهور منتظم في أداء الاقتصاد التركي. وتجلَّى ذلك في كل المؤشرات الدالة على سلامة الاقتصاد.
ففي عام 2020، انخفضت قيمة الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي بنسبة 30%، وتقلَّص حجم احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية إلى 16 مليار دولار، وبلغت نسبة التضخم 12% وهو ضعف الرقم الذي أعلنته الحكومة هدفاً لتحقيقه. وعانى الاقتصاد من انخفاض الاستثمارات الأجنبية، وازدياد عجز الميزان التجاري وارتفاع نسب البطالة، وانهيار عوائد السياحة، وازدياد حجم الدين الخارجي الذي بلغ 100 مليار دولار والذي جعل تركيا سادس أعلى الدول مديونية في العالم.
وأثر ذلك على ارتفاع أسعار السلع الأساسية للمواطنين كالغذاء والكهرباء والطاقة. وفي استطلاع للرأي أجراه مركز أبحاث “متربول” التركي ونُشرت نتائجه يوم 2 نوفمبر الماضي، أفصح 87% من المشاركين عن تشاؤمهم تجاه السياسات الاقتصادية المتبَعة، و78% عن اعتقادهم بأن الاقتصاد في طريقه إلى الهاوية.
أدى ذلك إلى تغييرات في إدارة السياسة المالية للبلاد. ففي يوم 8 نوفمبر، أقال أردوغان محافظ البنك المركزي مراد أويصال وعيَّن بدلاً منه ناجي إقبال وزير المالية الأسبق. وفي اليوم التالي، قدم وزير الخزانة والمالية بيرات البيرق استقالته وهو صهر أردوغان الذي عيَّنه في هذا المنصب في يوليو 2018. وأرجع البيرق استقالته لأسباب صحية، فتم تعيين لطفي علوان وزيراً بدلاً منه والذي كان رئيس لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان، وشغل من قبل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير التنمية.
يُلاحَظ على هذه التغييرات سرعتها وغرابة الطريقة التي استقال بها البيرق، فهو لم يتقدم باستقالته إلى رئيس الدولة حسب القواعد المعروفة بروتوكولياً، وإنما أعلنها في شكل بيان مقتضب للشعب على موقع التواصل الاجتماعي “انستغرام” ولم يدلي بأي تصريح بعدها. ويبدو أن البيرق فضَّل الاستقالة للتعبير عن استيائه لعدم تشاور أردوغان معه بشأن تغيير محافظ البنك المركزي، واختياره لشخص يختلف معه في سياساته. وربما قام أردوغان بهذه الخطوة لفرض الاستقالة على صهره.
ويمكن تفسير موقف أردوغان بتدهور الأوضاع الاقتصادية وتراجع شعبية البيرق في الشهور الأخيرة بسبب الانتقادات الواسعة التي تعرَّض لها بعد إعلانه “البرنامج الاقتصادي الجديد” الذي طرحه في سبتمبر الماضي، وفشله في إقناع الرأي العام بقدرة البرنامج على حل مشكلات الاقتصاد التركي، وأيضاً بسبب استهجان الرأي العام لتصريحات البيرق التي استهان فيها بالآثار المترتبة على انخفاض قيمة العملة التركية على الناس.
أقدم أردوغان على هذه التغييرات لامتصاص الغضب الشعبي من تدهور الأوضاع الاقتصادية، فأراد إعطاء الانطباع بخروج المسؤولين عن السياسة التي أدت إلى هذه النتائج. ويمكن القول إنه اتبع سياسة “كباش الفداء”، فضحَّى بصهره ومحافظ البنك المركزي ليبعد عن نفسه مسؤولية التدهور الاقتصادي، مع أنه المسؤول الأول عن إدارة شؤون الاقتصاد وكل شؤون الدولة في ظل حكومته الرئاسية.
وفي أعقاب التغييرات، أعلن أردوغان عن نيته في القيام بإصلاحات اقتصادية وأنه رغم عدم اعتقاده في بعضها فسوف يتبناها بناء على نصيحة الخبراء وشبَّه نفسه بمن يأخذ دواء شديد المرارة. من هذه الإصلاحات، إعلان البنك المركزي رفع سعر الفائدة إلى 15%، ، والتقى أردوغان بأعضاء جمعية المستثمرين الأجانب لتشجعيهم على زيادة استثماراتهم في تركيا ووعدهم بإزالة المعوقات التي تعترض أنشطتهم.
عانت تركيا من عدم الاستقرار المالي والنقدي بسبب تدخل أردوغان في القرارات المتعلقة بهذا الشأن وإخضاعها لاعتباراته السياسية دون تقدير كاف لآثارها الاقتصادية فهو يعتقد مثلاً أن رفع سعر الفائدة يؤدي إلى التضخم، وأن الفائدة هي السبب والتضخم هو النتيجة، رغم أن ذلك ليس محل اتفاق على صحته بين الاقتصاديين.
وإلى جانب الدلالات المالية والاقتصادية، فإن هذه التطورات تشير إلى أزمة عميقة لنظام أردوغان، بسبب سياساته الداخلية والخارجية. فعلى مستوى الداخل، أدَّى انفراد أردوغان بالرأي إلى انشقاق عدد من القيادات التاريخية لحزب العدالة والتنمية وتأسيسهم لأحزاب معارضة مثل أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق، الذي أسس حزب المستقبل وقال إن “أردوغان وعائلته هما أكبر مصيبة تحل بتركيا”، وعلى باباجان، نائب رئيس الوزراء ووزير الدولة للشؤون الاقتصادية الأسبق، الذي أسس حزب الديمقراطية والتقدم، ووصف دعوة أردوغان لمقاطعة السلع الفرنسية بأنها “حركة صبيانية”. كما أدى إلى انخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية إلى أقل من 30% في أكتوبر 2020، وهي أقل نسبة حصل عليها الحزب منذ وصوله إلى الحكم 2003.
إن الأزمة الراهنة تصل إلى داخل بيت أردوغان، فالبيرق كان الرجل الثاني في الحزب واعتبر الكثيرون أن أردوغان يُعدَّه ليكون خليفته في رئاسة الحزب والحكومة. واعتبر باباجان استقالته بمثابة إعلان “إفلاس السياسات الاقتصادية الفاشلة”، وإعلان “إفلاس نظام الحكومة الرئاسي”. ومن ثم، فإن استقالته بهذه الصورة قد يكون لها أبعاد أكبر، خاصة إذا لم يتحسن أداء الاقتصاد التركي.
وعلى المستوى الخارجي، فإنه لا يمكن الفصل بين تدهور أداء الاقتصاد التركي ومغامرات أردوغان الخارجية، واعتماده على القوة العسكرية مما أدى إلى زيادة الإنفاق العسكري. أضف إلى ذلك، تدخله في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وانتهاكه لقواعد القانون الدولي في شرق المتوسط، مما أدى إلى قيام عدد من الدول بإعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية والاتفاقيات التجارية مع تركيا، وإلى انخفاض موقعها كمقصد للاستثمارات بل وقيام حركات شعبية في عدد من الدول العربية لمقاطعة السلع التركية.