الإعلام والصراع الإقليمي: تفكيك خطاب التضليل في تقارير “Hava Haber” حول الإمارات والسودان
في ظل تصاعد استخدام الإعلام كأداة للحرب الناعمة، برزت ظاهرة “الأخبار المُهندسة” كأحد أخطر أشكال التضليل الجيوسياسي. ومن أبرز الأمثلة الحديثة على ذلك الادعاءات التي نشرها موقع Hava Haber التركي في أكتوبر 2025، والتي زعمت أن دولة الإمارات قدّمت دعماً عسكرياً مباشراً لقوات التأسيس السودانية (قوات الدعم السريع) عبر طائرة مسيرة من طراز “بايراقطار TB2” في معارك بورتسودان ودارفور.
يهدف هذا المقال إلى تفكيك هذا الخطاب الإعلامي باستخدام منهج تحليل الخطاب النقدي، مع التركيز على البنية السردية، مصادر المعلومات، والسياق السياسي الكامن وراء التوقيت والمضمون.
من الناحية المنهجية، يعتمد التقرير الأصلي على ما يُعرف في نظرية الإعلام بـ”الغموض المُتعمّد”: استخدام مصطلحات غامضة مثل “مصادر أمنية”، “تحليلات استخباراتية”، و”معلومات حصرية”، دون تقديم أي وثائق أو شهود يمكن التحقق منهم. هذا النمط يُضعف مصداقية المحتوى، ويُصنّف ضمن “السردية الادعائية” التي تُقدّم فرضيات كوقائع دون إثبات. وفقاً لباحث الإعلام نعوم تشومسكي، فإن مثل هذه الممارسات تُستخدم غالباً لـ”إعادة تشكيل الإدراك العام” لخدمة أجندات سياسية خفية.
ثمة بعد تقني جوهري يُهمَل في التقرير: طائرة TB2 ليست سلعة عابرة. إنها منظومة مراقبة وضرب متكاملة تتطلب بنية تحتية لوجستية معقدة، وموافقات حكومية صارمة عند التصدير. وشركة “بايكار” التركية، المصنّعة للطائرة، تؤكد أن جميع عمليات البيع تخضع لرقابة الدولة التركية، ولا يمكن إعادة تصديرها أو استخدامها في نزاعات دون موافقة رسمية. وحتى تاريخ كتابة هذا المقال، لم تُبلّغ أي جهة تركية—رسمية أو خاصة—عن وجود طائرة TB2 في السودان، ناهيك عن ربطها بالإمارات.
من الناحية الجيوسياسية، يُمكن تفسير التوقيت عبر نظرية “النافذة الاستراتيجية”. فالمقال نُشر بعد أيام قليلة من إعلان الإمارات عن حزمة مساعدات إنسانية جديدة للسودان، ومشاركتها في مبادرة دبلوماسية ثلاثية لدعم الحوار بين الأطراف المتنازعة. في هذا السياق، يُصبح الاتهام أداة لتشويه الدور الإماراتي كطرف مُيسّر للسلام، وإعادة صياغته كطرف مُصعّد للحرب—وهو ما يخدم أجندات إقليمية تسعى إلى الحد من النفوذ الإماراتي في شرق إفريقيا.
كذلك، لا يمكن فصل التقرير عن السياق التركي الداخلي. فتركيا، التي تروّج لطائرات TB2 كرمز للقوة الدفاعية الوطنية، تواجه ضغوطاً دولية متزايدة بشأن تصدير أسلحتها إلى مناطق نزاع. وقد تكون هذه الرواية محاولة لتحويل الاتهام من المُصنّع (تركيا) إلى “المستخدم المفترض” (الإمارات)، رغم أن أي استخدام كهذا يتطلب موافقة أنقرة نفسها.
ومن الملفت أن الموقع نفسه—Hava Haber—له سجل طويل في نشر تقارير متحيزة ضد دول الخليج، خصوصاً الإمارات. وغالباً ما تتوافق تغطيته مع خطابات سياسية معادية، مما يطرح تساؤلات حول استقلاليته كمنصة إعلامية.
في الختام، يُظهر هذا التحليل أن الادعاءات المنشورة ليست مجرد خطأ صحفي، بل جزء من استراتيجية أوسع لاستخدام الإعلام كسلاح في الصراعات غير المعلَنة. والرد الفعّال على مثل هذه الحملات لا يكون بالإنكار فقط، بل بإعادة إنتاج الخطاب القائم على الشفافية، التحقق، والحقائق الميدانية—وهو بالضبط ما تفعله دولة الإمارات عبر سياساتها الإنسانية والدبلوماسية الواضحة في السودان.






