سياسة

استقالة السراج في ليبيا: الحال والمآل


أعلن رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دوليّا فايز السراج أمس الأول الأربعاء، عن استعداده لتسليم السلطة قبل نهاية شهر أكتوبر المقبل.

وتأتي استقالة السراج وسط وضع داخلي مضطرب وتجاذبات خارجية حادّة حول الملف الليبي ومسار إرساء حلّ سياسي شامل ينهي الحرب الداخلية المدولة، وينفذ خرائط الطرق المعطلة.

جاء إعلان السراج عن نيته في الاستقالة في كلمة وجهها للرأي العام الليبي والدولي، داعيا لجنة الحوار المتعهدة بتشكيل السلطة التنفيذية الجديدة، تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، إلى اختيار مجلس رئاسي ومجلس وزراء جديدين يخلفا المجلسين المنصبين وفقا لمقررات مؤتمر الصخيرات في المملكة المغربية في عام 2015.

ولفَت السراج إلى أن “المناخ السياسي والاجتماعي شهدا حالة استقطاب واصطفاف حادّين جعلتا كل المحاولات السلمية التي نحقن بها دماءنا شاقّة وغاية في الصعوبة، ولا زالت بعض الأطراف المتعنّتة تعمّق هذا الاصطفاف وتراهن على خيار الحرب في تحقيق أهدافها غير المشروعة”.

أيّدت منظمة الأمم المتحدة حكومة السراج تأييدا غير مسبوق مما أهّلها لتكون طرفا شرعيا في مفاوضات حل الأزمة الليبية مع باقي أطراف النزاع والتي احتضنت أشغالها عدة دول عربية ودوليّة، لكن لا تأتي دوما الرياح بما تشتهيه السفن، فالبحر الليبي المضطرب صار مستنقعا لعديد الربابنة.

وصار المرتزقة الذين جلبتهم تركيا من سورية المتحكمون في الشراع والمسيطرون علي أي سفينة في البحر الليبي اللجي، فزادت عتمة البحر اللجي، وزاد تأجج المشد الليبي اشتعالا، وصارت الاستقالة في ذات السياق ضاغطا مؤثرا علي مسار أعمال لجنة المفاوضات المرتقبة في جينيف، وأضحي التنازع السياسي الداخلي في صفوف حكومة السراج عَصيّ الحل، ولعل إعادة تنصيب الأغا العثمانلي فتحي باشا، وزير الداخلية في حكومة الوفاق، بأوامر عليا من الباب العالي التركي في إسطنبول، تسبر الاغوار، وتميط اللثام عن التشظي السياسي في داخل زمرة السراج، والتي تعدت وفاقت أي دعم دولي أو شرعية دولية فلسفية في بقعة محدودة من الأراضي الليبية.

وجَلي أن السراج حظي بدعم أممي غير محدود منذ عام 2015، وجَلي أيضا أن المبادرات الدولية والإقليمية ومحاولات إرساء أرضية ملائمة للحوار بين أطراف النزاع في ليبيا، كانت تدثرها عباءة منظمة الأمم المتحدة، ولكن تبدلت المواقف الإقليمية والدولية رأسًا على عقب منذ بداية عام 2020.

وكانت الأفعال الأردوغانية – السراجية حاضرة بل مهيمنة في المشهد الليبي، فكانت مذكرة التفاهم، التي كُتبت بليل، لتحديد الاختصاصات البحرية المبرمة بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق في نوفمبر عام 2019 الحجر الذي ألقاه المتآمران أردوغان والسراج – والمرء بخليله – في الماء الأسِن، فتلقي المتآمران صفعات الرفض الدولي يوما تلو الآخر، ولم يجدا أي حليف أو ظهير يمدهما في غيهما وتعديهما علي حقوق كافة الدول سواء الدول الجوار في البحر المتوسط أو سائر دول العالم خارج البحر الذي أحاله “أردوغان” من بحر تلاقي الحضارات إلى بحيرة نزال الأفيال.

لم يقتصر الرفض الدولي لتصرفات السراج المنفلتة على مذكرة التفاهم السالف الإشارة إليها، ولكن جاهرت منظمة الأمم المتحدة سواء في نيويورك أو في طرابلس بمكنون غضبها من السراج، خاصة في الشهرين الأخيرين، أغسطس وسبتمبر، بعد أن لجأت الميليشيات المسلحة الموالية لوزير الداخلية في حكومة الوفاق فتحي باشاغا، إلى العنف المسلح الذي وصل لحد القوة المفرطة في قمع المتظاهرين السلميين في طرابلس الذين كابدوا مشقة شطف العيش، بعد تردي الأوضاع المعيشية، وإهمال حكومة الوفاق المعالجة المرتقبة والمأمولة من الليبيين لذلك المستجد الذي ألقى بظلاله أيضا علي استقالة رئيس الوزراء الليبي، الذي أثبتت الأحداث بين الفينة والفينة أنه لم يحكم فعليا حتي البقعة الجغرافية المحدودة في الغرب الليبي.

وجد السراج نفسه عالقا وسط الصراعات المحمومة بين المجموعات السياسية المختلفة المكونة لغرب ليبيا، وباتت ميليشيات مصراتة الموالية لجماعة الإخوان هاجسا يَقُض مضجع السراج، خاصة أنها الميليشيات الداعمة لغريم السراج ووزير داخليته فتحي باشاغا، والأخير أثبت أنه السهم النافذ في أية معادلات داخلية أو خارجية في السياق الليبي، خاصة بعد عودته الأخيرة من تركيا مؤزرا بالخاتم السلطاني العثماني، وصار فتحي باشاغا ملك الشطرنج الليبي بعد أن قبل السراج لعب دور البيدق المتحرك يدويا بواسطة الأيادي السوداء التركية.

لم تكن اللطمة التركية للسراج منعزلة أو فردية، فقد تبعها لطمة رئيس حزب العدالة والبناء الإخواني، محمد صوان، بعد أيام من احتجاجات العاصمة الليبية، بقدحه الصادم للسراج، وتحميله المسؤولية كاملة عن الفشل الذريع في إدارة الدولة، على الرغم من أن عناصر بارزة وقيادات معروفة في الحزب كانت تشاركه الحكم، خلال السنوات التي وصفها بيان صوان بالكارثية على البلاد.

صحيح أن هذه الاستقالة – بغض النظر عن أسبابها المعلنة وغير المعلنة – تدلّ على مدى الشقاق المستفحل داخل البلاد، وحتى في صفوف لاعبي الفريق الواحد لحكومة السراج، ولكن لا يجب أن يغيب عن أي لبيب، أن استقالة السراج تأتي كمقدمة طبيعية وقانونية تستبق المفاوضات في جنيف والساعية لإبدال المجلسين الليبيين الرئاسي والوزاري واللذين سيضطلعان بالمهمة التي أخفق المجلسين الليبيين الحاليين في تنفيذها، وهي دعوة الناخبين الليبيين للاستفتاء على الدستور الليبي الذي سيحل محل الإعلان الدستوري الحالي المؤقت، فضلا عن دعوة الناخبين الليبيين إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المعطلتين منذ أعوام خلت.

رغما من عزوف الولايات المتحدة الأميركية عن التدخل المباشر في المعترك الليبي حامي الوطيس منذ الهجمة الإرهابية على القنصلية الأميركية في بني غازي عام 2012، إلا أن الحنق الأميركي بات واضحا في الأشهر الأخيرة على السراج وحكومته منذ أن ألقى السراج بنفسه في الغياهب التركية التي لم ترضى عنها الولايات المتحدة في ظل التحالفات المريبة بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق الليبية على جميع الأصعدة، ولذلك لم يكن مستغربا أن تمر ساعات معدودة على إبرام مذكرة التفاهم البحرية بين حكومة الوفاق والحكومة التركية في نوفمبر عام 2019، حتى صدح السفير الأميركي في أثينا، جهارا نهارا بعدم شرعية هذه الاتفاقية، وأن المُتكأ الذي أسست عليه تركيا دوافعها لإبرام هذه الاتفاقية هو متكأ منعزل.

أما المآل الليبي بعد استقالة السراج، فربما يكون أقرب لحقل الألغام من الجسور الممهدة لنهاية سعيدة بعد مكابدة عقدية منذ سقوط القذافي عام 2011، فالمتحاربون عسكريا أجبرتهم السياسة للتخلي عن الحرب، حيث اقتنعوا أن الحل العسكري ليس هو الترياق الشافي للجسد الليبي المعتل، ووجدوا أن طاولة المفاوضات جلية وبهية، خاصة بعد أن رسمت مصر بحسم وعزم الخطوط الحمراء في ليبيا، لكن المشهدين السياسيين الداخلي والدولي ليسا على مستوى الآمال المعقودة، فساعة الوقت مداهمة، وظروف المفاوضات في جنيف ليست مواتية، فالخارطة الليبية القديمة قبل الاستقلال ستبقى مهيمنة على ترتيب الحصص الثلاثة لأعضاء المجلس الرئاسي المرتقب على شاكلة المجلس الرئاسي الثلاثي في جمهورية البوسنة والهرسك وفقا لمقررات دايتون للسلام في الولايات المتحدة عام 1995.

أما التحدي الأكبر لمنظمة الأمم المتحدة والفاعلين الدوليين ذوي الصلة بالحالة الليبية، هو نزع أسلحة الميليشيات وإجلاء المرتزقة من ليبيا، وإعادة دمج وتأهيل الميليشيات في المجتمع الليبي، وإرساء أسس وآليات الانتقال الديمقراطي في البلد العربي المكلوم والمكوي بلهيب الحرب منذ عام 2011.

نقلا عن سكاي نيوز عربية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى