سياسة

إنجازات السلطان


الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يشن هجوما لاذعاً على نظيره التركي رجب طيب أردوغان، يتعهد بوضع حد للتدخل الأردوغاني في شؤون بلاده، ويحذر السلطان العثماني من دعم جماعات انفصالية تهدد الجمهورية الفرنسية، لا تضيف تصريحات ماكرون جديداً على تردي العلاقات بين باريس وأنقرة، وإنما تزيد من وضوح ذلك النفور الأوروبي تجاه تركيا، فأردوغان اليوم بات حملاً ثقيلاً على القارة العجوز في جغرافيتها وعضويتها في حلف الناتو وعلاقاتها مع الولايات المتحدة.

قبل عقد من الزمن كانت تركيا تخطو نحو العضوية الأوروبية بثبات نسبي إن جاز التعبير، تغير الحال اليوم وباتت أنقرة أبعد من أي وقت مضى عن انضمام نجمتها إلى علم الاتحاد الأوروبي، ما حدث خلال السنوات العشر الماضية كثير. ولكن أبرز الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة هو تحول تركيا من دولة برلمانية إلى حكم الفرد الواحد، ليس بمنطق دول يديرها رئيس يخضع لرقابة المؤسسات الدستورية ووسائل الإعلام، وإنما بلغة الدول التي يهيمن فيها الرئيس على كل شيء.

صحيح أن رجب طيب أردوغان وصل إلى الرئاسة عبر الانتخابات، وصحيح أيضاً أن لديه الأكثرية الحزبية التي تدعمه في البرلمان، ولكن هذين المؤشرين باتا من الماضي الذي كانت تفاخر به تركيا بسياسة (صفر مشاكل) مع الجوار والعالم، اليوم قد تؤدي بك معارضة أردوغان إلى السجن، إما بتهمة الانتماء للمجموعة الانقلابية التابعة للداعية فتح الله غولن. وإما بتهمة دعم داعش أو حزب العمال الكردستاني أو غيرها من الجماعات على قائمة أردوغان الطويلة للمنظمات الإرهابية.

مرت نحو أربع سنوات الآن على محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، عشرات الآلاف عوقبوا عليها، ولا تزال قوائم الاعتقالات بحق المتهمين فيها تصدر من القضاء حتى اليوم. كل قائمة تضم المئات، كأن غولن يسكن في كل بيت تركي، وربما نكتشف بعد بضع سنوات أن الانقلاب شارك فيه نصف الشعب التركي، بالتآمر طبعاً مع نصف دول العالم، لا يصلح أن تكون الرواية غير ذلك لأن القادة “العظماء” مثل أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد لا يتعرضون إلا لمؤامرات كونية.

الاستثمار في المحاولة الانقلابية الفاشلة كان فرصة كبيرة بالنسبة لأردوغان من أجل تثبيت سلطته وإيقاظ أحلام السلطان داخله، نجح في هذا الاستثمار وخسرت تركيا، تماماً كما نجح في استثمار الأزمة السورية، وأزمة اللاجئين، والحرب على داعش، والأزمة الليبية، وأزمة القس الأمريكي، وأزمة طائرات إف 16، وغيرها كثير من الأزمات التي جلبت النفوذ والمال للسلطان وحاشيته، ولكنها كلفت البلاد كثيراً من إنجازاتها الاقتصادية والسياسية. تلك الإنجازات التي تحقق منها كثير عبر حزب العدالة والتنمية التركي قبل أن يتحول إلى فرع لتنظيم الإخوان المسلمين، ويتحول زعيمه رجب طيب أردوغان إلى المرشد الأعلى للجماعة في كل العالم.

جميع إنجازات أردوغان، خسارات تركيا، راكمت نقمة شعبية على الحزب الحاكم ونقمة داخل الحزب على السلطان وبطانته، خسر حزب العدالة والتنمية مدينتي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية، وانشق عن الحزب قادة كانوا رفاق أردوغان وباتوا اليوم خصوما سياسيين انقسمت بينهم قواعد الحزب، أما خارجياً فيحارب السلطان على جبهات عدة حملت اقتصاد بلاده أعباءً كبيرةً، وأتت على رصيدها من العلاقات الخارجية التي راكمتها في العقد الأول من الألفية الجديدة.

السياسة التي يمارسها أردوغان اليوم باتت تنطوي على كثير من المغامرة وقليل من الحكمة. الرهان على أنصاف الحلول وأنصاف الحلفاء يشبه السير على الحبال، تحيط بك الهاوية من أربع جهات، ومع كل هبة رياح بسيطة يمكن أن تسقط يمنة أو يسرى، مع كل سقوط تسجل خسارة، ومع كل خسارة يضعف موقفك أمام الرأي العام في الداخل والخارج، حينها تشعر بضيق وتبحث عن نصر زائف يعيد لك اعتبارك، وعندما تدركه تكتشف أنك قد تورطت في خسارة أكبر بكثير.

كل الملفات التي يديرها السلطان الآن تخضع لذات القاعدة، الخسارات فيها تدفعه نحو انتصارات زائفة، وهذه الانتصارات تستهلك من رصيد بلاده خارجياً ورصيده السياسي داخلياً، العلاقة مع الولايات المتحدة مثال واضح على هذه المعادلة، هي نصف حليف وتقدم له أنصاف حلول لا تعالج أيا من أزماته الداخلية أو الخارجية، ينطبق الحال ذاته على روسيا والاتحاد الأوروبي، كذلك حلفاء تركيا في المنطقة مثل قطر وإيران وإسرائيل وحكومة الوفاق الليبية، ولا يجب أن ننسى علاقات أردوغان المرشد مع الهند وباكستان ودول أفريقية التي يظن أنها مستعمرات عثمانية.

الأمثلة على “إنجازات” السلطان العثماني كثيرة في الداخل والخارج، وهو يستعد اليوم لإنجاز جديد له في سوريا، يقف إلى جانبه هناك جبهة النصرة، نصف الحليف الذي سلمه أردوغان مفاتيح مدينة إدلب، بعدما وقع مع نظيره الروسي عام 2018 اتفاق المنطقة منزوعة السلاح شمال غربي سوريا، هذا الإنجاز وغيره الكثير يجعل أردوغان أشبه ببطل رواية “خريف البطريرك” الذي “تُرك بمفرده في الرئاسة وقد تم منحه السلطة المطلقة، لم يهتم بالقوانين ولا التوقيعات، وأخذ يحكم بأسلوب النطق بأعلى صوته وبنفسه بما يحلو له، في أي مكان كان، وفي أي لحظة”.

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى