إسرائيل.. جبهات داخلية وخارجية
لن تغير صواريخ “المقاومة” معادلات الأرض مع إسرائيل، ولن تحقق الوحدة الفلسطينية المنشودة.
عندما تهدأ الحرب وينقشع غبار المعارك، ستجد واقع الفلسطينيين في مناطقهم لم يتغير، ما كان للسلطة بقي لها، وما كان لحركة حماس لم تخسره. الدمار والموت دفع ثمنهما مَن كانوا وما زالوا يؤمنون بقضيتهم العادلة، وليس من تاجروا ويتاجرون بهذه القضية من أجل مصالحهم الشخصية أو السياسية أو العقائدية.
لن يشعر الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالامتنان لحماس، ولن يكافئها على صواريخها بالتصالح معها دون شروط. لن يوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل ولن يذهب إلى انتخابات تشريعية لا توافق عليها تل أبيب. في المحصلة سيستمر الانقسام الفلسطيني وتتواصل الخصومة بين حركتي فتح وحماس، ويبقى لكل من الضفة الغربية وقطاع غزة قرارات سياسية واقتصادية وإدارية مستقلة كأنهما دولتان .
خارج حدود إسرائيل ينتهي تأثير ما جرى مع بدء وقف إطلاق النار مع قطاع غزة، ولكن داخلها ستستمر تداعيات حرب مايو/أيار عام 2021 لفترة ليست قصيرة، وتحتاج إلى جهد كبير جداً من الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة الإسرائيلية لاحتوائها، وإخماد الحرائق المشتعلة تحت رماد الجبهة الداخلية لتلك الحرب، كما أسماها رئيس الوزراء وزعيم كتلة الليكود اليمينية في الكنيست الحالي بنيامين نتنياهو.
في نتائج الجبهة الخارجية لا تحتاج إسرائيل إلا لتقويم نقاط ضعف قوات ردعها ومواجهتها لصواريخ ومسيرات حماس، كما تحتاج لإعادة النظر في تقديراتها الاستخباراتية لما تمتلكه وتستطيعه حماس عسكرياً، وهذان أمران يسهل التعامل معهما، ولن يشكلا عبئا كبيرا على أي حكومة مقبلة، خاصة أن تل أبيب تحظى دائما بدعم، علني وسري، لا محدود من قبل حلفائها الذين يصنفون حماس على قوائم الإرهاب.
يمكن المضي في هذا أكثر، والقول إن إسرائيل انتزعت في هذه الحرب تأكيدا جديدا من “محور المقاومة” بأن الجبهات الخارجية التي “تخشاها” تل أبيب منفصلة، والمؤازرة بينها لن تتجاوز حدود الإعلام التقليدي والجديد. وبالتالي فإن “بؤر المقاومة” تتحرك كلما أرادت تسجيل موقف سياسي في الدول التي تتطفل عليها، أو كلما أراد السيد الإيراني أن يدمر أو يخرب دولة أو يقتل شعباً في منطقة الشرق الأوسط.
منفعة أخرى خرجت بها إسرائيل في هذه الحرب، وهي وضوح الموقف العربي في التمييز بين حقوق الفلسطينيين وبين “نزعات” حماس في غزة أو “مكائد” السلطة في رام الله. كل الدول العربية، دون استثناء، تؤيد حق الفلسطينيين بدولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وتؤيد أيضا توقف الاستيطان والزحف الإسرائيلي على المناطق الفلسطينية، بالإضافة إلى تأييدهم احترام حقوق عرب إسرائيل وفلسطيني الداخل.
ليس فقط الدول العربية هي من تؤيد هذه القضايا العادلة والواضحة، وإنما أيضا دول غربية عرفت بدعمها اللامحدود لإسرائيل على مدار عقود طويلة. قد تختلف شدة التأييد أو طريقته، ولكن هذه الحرب أظهرت أن العالم عموما بات يعرف أن الدولة العبرية لا تعدل مع سكانها العرب، ولا تعتمد الجدية والحزم الكافيين في معالجة انتهازية مواطنيها اليهود المتطرفين مع الذين ينتمون إلى ديانات ومعتقدات أخرى.
هذه هي الجبهة الكبرى التي يجب أن تخشاها إسرائيل اليوم، وتجاهل وجودها هو الخطيئة التي ارتكبتها حكومات متعاقبة وأدت إلى انفجار الأوضاع في المدن التي يعيش فيها يهود يتمتعون بجميع الحقوق، وعرب يشعرون بمواطنة من الدرجة الثانية. هذه المعاملة غير العادلة هي التي راكمت النقمة لعقود، وجعلتها قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة ولأي سبب، فما بالك بالاعتداء على الأقصى والقدس؟!
ما أشعل عرب الداخل، قبل مناطق السلطة الفلسطينية، هو هذه المعاملة غير العادلة لهم، والتي تجلت بأسوأ صورها في محاولة طرد أهالي الشيخ جراح والاعتداء على المسجد الأقصى. هذه المعاملة هي التي أشعلت صدور الفلسطينيين في الداخل والخارج، وجعلتهم ينتفضون بالتزامن مع حرب صواريخ بدأتها حماس على إسرائيل، وأدت إلى سقوط قتلى وجرحى، ودمار منازل ومنشآت وأراضٍ لدى الطرفين.
من وصفهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأعداء الداخل ما هم إلا أشخاص حرموا من الانتماء الكامل لدولة يعيشون فيها منذ عقود، وقد أبقى التمييز الممارَس ضدهم على نزعة الولاء لمرحلة ما قبل دولة إسرائيل عام 1948. ولو أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ ذلك التاريخ، بذلت جهودا أكبر في تعزيز المواطنة بالبلاد، لكان عرب الداخل أكثر تصالحا وانسجاماً مع محيطهم اليهودي الداخلي.
ليس عرب الداخل فقط من يعانون التمييز في إسرائيل، فهناك تفرقة بين اليهود أنفسهم وفقا للجذور ومسقط الرأس، وفوق هذا يأتي ذلك التفضيل الدائم والمعاملة الخاصة التي يحصل عليها اليهود المتطرفون على حساب بقية فئات المجتمع. جميع هذه المظاهر تجعل وحدة المجتمع الإسرائيلي هشة، وهي تنذر بمخاطر لم يلتفت لها الساسة والأحزاب بالقدر الكافي قبل حرب أيار 2021 واحتجاجات المدن المختلطة.
تسمع اليوم أصواتا في إسرائيل تصف ما يجري بأسوأ الأوقات، وتشاهد عضو الكنيست المكلف بتشكيل الحكومة، زعيم تكتل “هناك مستقبل” يائير لبيد، يقول إن أحداث الداخل تمثل تهديداً وجودياً، والبلاد بحاجة إلى حكومة تنبذ كل الكراهية المتراكمة بين الناس. لقد أصبحت إسرائيل حقيقة على حافة حرب أهلية، وهذا ما بات واضحا ليس فقط لساستها وأحزابها، وإنما لحلفاء تل أبيب من دول الغرب أيضاً.
عندما تهدأ رحى الحرب سيجد الإسرائيليون أن حجم الدمار الذي لحق بنسيج مجتمعهم هو أكبر مما طال البنية التحتية، كما سيكتشفون أن التفرقة والتمييز أحدثا ضررا أكثر بكثير مما فعلته صواريخ ومسيرات حماس. انطلاقا من هذه الحقائق يجب أن يعملوا لإعادة بناء دولتهم على أسس لا تفرق بين المواطنين مهما كان انتماؤهم الديني أو العرقي. وهو بناء لن يكتمل أبداً حتى ينعم جيرانهم الفلسطينيون بدولة مستقلة تماماً على حدود 1967 التي أقرتها الأمم المتحدة بناء على اتفاق ورضا الطرفين.