موسكو وأسوأ السيناريوهات الأمنية
يعد التفاعل الجغرافي أحد المتغيرات، التي ركزت عليها المحاولات النظرية في الفكر السياسي.
وبشكل أساسي، تندرج في تفسير انتقال القوة، وهو الذي حظي بجاذبية خاصة لدى المختصين بدراسات جيوبوليتيكية، والذين قاموا بإعادة التفسيرات لهيكلة القرار السياسي العالمي، وبداية التوازنات الكبرى، التي كانت سائدة قبل الهيمنة الأمريكية عليه، وبعد انحسار روسيا الكبير عن الساحة العالمية.
ثمة تساؤلات عالمية إزاء تفاقم حدة التوترات والصراعات الساخنة التي تتجاوز واقع ومجريات الحرب الباردة إلى مواجهات محتدمة ومتوقعة بين القوى الكبرى.
وصلت علاقات روسيا مع واشنطن إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، وألغت واشنطن نشر اثنتين من سفنها الحربية في البحر الأسود مؤخراً بعد احتجاجات روسية حاشدة، وعبرت سفينتا إنزال روسيتان من طراز “روبوتشا” من الأسطول الشمالي الروسي، وهو طراز قادر على حمل دبابات ونقل مدرعات وجنود خلال الهجمات الساحلية.
ومن المتوقع أن تعبر المزيد من التعزيزات البحرية الروسية على شكل سفينتي إنزال عبر مضيق البوسفور، لكن هذه المرة من الأسطول الروسي في البلطيق، إضافة إلى 15 سفينة صغيرة من الأسطول الروسي في بحر قزوين وصلت إلى البحر الأسود ضمن التدريبات.
وبالمقابل، عبرت سفينة تحمل شاحناتٍ وعتادا لوجستيا لقوات حلف شمال الأطلسي في رومانيا، مضيق البوسفور، لكن الجنود الأوكرانيين على خط المواجهة في شرق أوكرانيا يشكون بأن العقوبات الأمريكية ضد موسكو وطلب كييف مساعدة حلف الأطلسي، “سيردعان” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتدرك وزارة الدفاع الأمريكية الخطط الروسية لمنع السفن الحربية من عبور مضيق “كيرتش” وبحر “أزوف” ومناطق عبور في مياه البحر الأسود حتى أكتوبر/تشرين أول المقبل بذريعة تنفيذ تدريبات عسكرية، وهذه الخطوة يعدها الغرب بمثابة تقويض وزعزعة لاستقرار أوكرانيا، وطالبت الإدارة الأمريكية بالكف عن تهديد السفن الأجنبية في المنطقة والتراجع عن بناء قوة عسكرية على حدود أوكرانيا، في الوقت الذي يواصل فيه البنتاجون عملياته الروتينية لسفنه الحربية في البحر الأسود.
وفي مواجهة أكبر انتشار للقوات الروسية على الحدود الأوكرانية منذ عام 2014، طلب الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، مزيدا من “المساعدة الملموسة” من الغرب، لكن العديد من الجنود الأوكرانيين يقولون: “نعرف أننا وحدنا”، وترى موسكو أن توتر الأوضاع في المنطقة يرجع إلى التدريبات الأمريكية والأطلسية قرب حدودها، وما يجري في جنوب شرق أوكرانيا يشكل خطراً على أمنها، وأنها تتخذ التدابير اللازمة، ولا تريد موسكو اندلاع أي صراع عسكري في أوكرانيا.
وسعياً لاستكشاف تطورات الموقف الروسي تجاه العالم العربي، يمكن الوقوف على عوامل جيوسياسية عدة تفسر النهج الروسي، في مقدمتها صراع روسيا في الحلبة الدولية لإعادة بناء نظام عالمي جديد، يكسر الاحتكار الأمريكي، ويفكك منظومة القطب الأحادي، ويغير من موقع العالم العربي في دوائر الأمن الاستراتيجي الروسي، كما يبرز من بين العوامل المحددة لموقف روسيا سعيها للتخفيف من خسائرها الاقتصادية من جرّاء التغييرات في العالم العربي، وإزالة الكوابح العسكرية التي تَحول بينها وبين ممارسة دور فاعل في فضاء الجغرافيا السياسية للعالم العربي.
يضاف إلى ذلك، تخوّف روسيا من امتدادات “الربيع العربي” وعودة “الأصولية الإسلامية” إلى الأراضي الروسية بعد انتهاء حقبة الحرب الشيشانية الروسية، فضلاً عن تشابكات العلاقات الروسية الإسرائيلية.
وتتصاعد حدة التوترات بين روسيا وأوكرانيا منذ أسابيع، إذ تتهم الأخيرة موسكو بأنها “تبحث عن ذريعة لاقتحام أراضيها”، وفي المقابل تتهم موسكو “كييف” بـ”التحضير لهجوم ضد الانفصاليين الموالين لروسيا في الشرق الأوكراني” إبان إرسال روسيا قوات إلى القرم، ومن ثم أطلقت مناورات بحرية في البحر الأسود، وكانت المناطق الثلاث المعنية بهذا القرار هي الطرف الغربي للقرم ومنطقة تقع إلى الجنوب من سيفاستوبول إلى غورزوف، ومنطقة مستطيل الشكل قبالة شبه جزيرة “كيرتش”.
وسبق أن اتهمت “كييف” والدول الغربية روسيا بأنها “تعرقل عمداً إبحار السفن التجارية في مضيق كيرتش”، الذي تؤكد موسكو أحقيتها بالسيطرة عليه بعدما ضمّت القرم، وبنت روسيا بكلفة باهظة جسراً فوق المضيق لربط أراضيها بالقرم.
ويمكن لدول معدودة مواجهة الولايات المتحدة، ومنها روسيا رغم الضعف الذي كانت فيه عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، بالإضافة الي الصين، لكن كلا من الصين والاتحاد الروسي يفتقدان الإرادة السياسية لمواجهة الولايات المتحدة.
ربما أصبحت الصين هي القوة العسكرية الثانية، بينما تشكل العقوبات، المتوقع فرضها على موسكو، وضعاً خطيراً، وبمجملها لن تساعد على احتمال عقد قمة بين بوتين وبايدن، فيما يتوجب على واشنطن الامتناع عن فرض عقوبات جديدة، من شأنها عرقلة أي مبادرة لتخفيف حدة الصراع القائم بينهما، إذا ما أرادت الإدارة الأمريكية إصلاح ذات البين بينهما، في الوقت الذي تبدو فيه موسكو مستعدة لأسوأ السيناريوهات الأمنية في عالم اليوم.