في “الاستعمار” التركي لشمال سوريا
للاستعمار وجوه وأشكال كثيرة، تتراوح بين الاحتلال العسكري المباشر، والسيطرة الاقتصادية والأمنية، والإحلال الثقافي والسياسي، وهو في اختياره لهذا الشكل أو ذاك له علاقة باختلاف الظروف ووجود الضرورات، لكن له جوهر واحد، يكمن في السيطرة التي تمارسها دولة على شعب آخر والتحكم بمصيره، لأهداف ومشاريع سياسية.
ولعل هذا ما تقوم بها تركيا بالضبط تجاه بعض الدول العربية في يومنا هذا، فمزاعم أردوغان بأن بلاده لا تنوي الاحتفاظ بأراض سورية، وأنها حريصة على وحدة الأراضي السورية، تدحضها المعطيات والحقائق والوقائع والإجراءات التي تقوم بها السلطات التركية يوما بعد آخر في المنطقة الممتدة بين إدلب وجرابلس وصولا إلى رأس العين في الشمال السوري، فاستراتيجية خطوة خطوة التي تتبعها هذه السلطات تحولت إلى احتلال مباشر، بات يحفر مجراه عميقا على الأرض السورية، هوية ووجودا ومصيرا.
لعل من يتابع خطوات تركيا في الشمال السوري عقب العمليات العسكرية الثلاثة التي قامت بها ( درع الفرات – غصن الزيتون – نبع السلام )، لا بد أن يرى كيف تحولت تركيا إلى الاحتلال المباشر لهذه المناطق، ومن أهم المؤشرات في هذا المجال:
- زيادة عدد نقاط المراقبة التركية في منطقة خفض التصعيد الرابعة من 12 نقطة إلى قرابة 60 نقطة، وتحويل مهمة القوات التركية هناك من المراقبة إلى العمليات العسكرية والأمنية، واللافت هنا، أن كل ذلك يجري على مرمى من الميليشيات التابعة لإيران هناك.
- ربط المناطق الواقعة تحت السيطرة التركية في الشمال السوري بسلطة الوالي التركي مباشرة، حيث يعطي الأخير الأوامر، ويرسم السياسات، ويحدد المجالس الإدارية المحلية، وكل من يعارض سياسة السلطات التركية مصيره القتل أو السجن بتهمة دعم ( الإرهاب ).
- تدمير البنية التحتية في هذه المناطق لصالح إقامة بنية جديدة مرتبطة بتركيا، ويشمل هذا الأمر معظم الخدمات من طرق ومواصلات واتصالات وتجارة وتعليم ولغة ورموز وإعلام وتداول للعملة .. وصولا إلى إقامة مناطق صناعية حرة فتحت لها الطرق لربطها مباشرة مع الداخل التركي.
- الزيادة الدائمة في النفوذ العسكري المباشر هناك، إذ مع استمرار السلطات التركية في نقل المرتزقة والمسلحين إلى ليبيا، تقول التقارير إن عدد الجنود الأتراك بلغ أكثر من 12 ألف جندي في هذه المناطق، وعدد الشاحنات العسكرية التي تنقل الدبابات والمدافع والمعدات زاد عن 7 آلاف شاحنة في ظل إقامة عشرات القواعد والنقاط العسكرية في مختلف مناطق الشمال السوري.
- التغيير الديمغرافي لصالح التتريك، ولعل مدينة عفرين هي أكثر المدن التي استهدفت من عملية التغيير الديمغرافي هذه، فالمدينة التي كان عدد الكرد يزيد فيها عن تسعين بالمئة تقول التقارير إن عددهم بات أقل من عشرين بالمئة، كل ذلك وسط تضييق مستمر على الأهالي، ومصادرة لمنازلهم وممتلكاتهم بغية دفع من تبقى إلى النزوح والهجرة، وسط الإصرار على التعليم باللغة التركية في المدارس ورفع صور أردوغان والأعلام التركية، وتغيير أسماء الساحات والأحياء والشوارع والقرى لحساب رموز تركية.
- زيارة وزير الداخلية التركي سليمان صويلو إلى بلدة الراعي في ريف حلب قبل نحو أسبوع، فهذة الزيارة حملت دلالات أمنية وسياسية خطرة، ليس لأنها أول زيارة لوزير داخلية تركي إلى شمال سوريا بل لأنها كرست عمليا قضية ربط الأجهزة الأمنية في هذه المناطق بوزارة الداخلية التركية مباشرة، في مؤشر إلى فرض تركيا أجندتها على هذه المناطق، خاصة وأن صويلو يعتبر من القوميين المتشددين، وهو الذي قال قبل فترة إن سكان شمال سوريا والعراق يعيشون ضمن مناطق الميثاق الملي، في إشارة إلى الخطط التركية الرامية إلى السيطرة الدائمة على هذه المناطق.
في الواقع، التصريحات التركية بشأن الحرص على وحدة الأراضي السورية تتناقض مع ما تقوم به على أرض الواقع من إجراءات عملية، ولعل إرسال المزيد من القوات والمعدات إلى هناك يثير السؤال عن الحاجة لها ؟ وما تخطط له ؟ هل ذلك تحضير لحرب جديدة أم لوجود دائم في إطار فرض سياسة أمر الواقع؟ لقد فعلت تركيا ذلك سابقا في منطقة لواء اسكندرون التي أطلقت عليها اسم هاتاي وكذلك في شمال قبرص .. إنه الروح الاستعمارية التركية التي تنبثق من إرث العثمانية لإعادة السيطرة التركية على شمال سوريا والعراق وصولا إلى طرابلس الغرب في ليبيا.
نقلا عن العين الإخبارية