سياسة

إرهابيون بلا حدود


عاطف السعداوي

لا يمكن اعتبار ما حدث مع المفكر المستنير يونس قنديل مطلع هذا الأسبوع، جريمة عادية أو حادثة فردية، ويجب ألا تترك هذه الجريمة تمر مرور الكرام ويطويها النسيان قبل تدبر دلالاتها وتوقع تبعاتها وقراءة دوافعها، فقدر البشاعة والهمجية التي نفذت بها هذه الجريمة تعني أنها حادثة كاشفة ودلالاتها أعمق مما بدت عليه، من حيث الرسائل التي أردات الجماعات المتأسلمة إيصالها من خلالها، وتداعياتها قد تكون أخطر إذا لم نتصدَّ لأسبابها الحقيقية بحسم وعزم وصراحة.

يونس قنديل لمن لا يعرفه أو لا يعرف ما حدث معه، باحث أردني مرموق يشغل منصب أمين عام مؤسسة بحثية تدعى “مؤمنون بلا حدود”، جرى اختطافه مساء الجمعة الماضي، تحت تهديد السلاح من قبل ثلاثة مجهولين، وأُخذ لمنطقة نائية على أطراف العاصمة الأردنية عمان، وتعرض هناك للضرب المبرح على أيدي المجرمين، ومورست ضده شتى أصناف التعذيب الجسدي والنفسي، حيث جرى إحراق لسانه وكسر أصابع يده، في إشارة رمزية إلى أن الهدف من الجريمة هو إسكات صوته العقلاني وكسر قلمه الناقد الحر، ثم كتب المجرمون على ظهره بسكين حاد عبارة “إسلام بلا حدود” ثم أحرقوا موقع ما خطت سكينهم، وطلب منه بشكل مباشر أن يتوقف عن الكتابة أو الحديث، وأن تتوقف مؤسسته عن ممارسة نشاطها، ولم يتركه المعتدون إلا بعد تقييده بالحبال ووضع شيء فوق رأسه أخبروه أن قنبلة سوف تنفجر إذا تحرك من مكانه، لتكتشف قوات الأمن التي عثرت عليه أن ما ربط فوق رأسه كان مصحفا، في أحط وأسوأ استغلال لكتاب الله في ترويع وإرهاب المسالمين.

يونس قنديل.. سلاما على جسدك وتحية إلى فكرك وعقلك وقلمك.

 المستهدف من هذه الجريمة لم يكن شخص يونس قنديل، بل الفكر المستنير الذي يمثله والداعي لتحرير العقل من جميع القيود التي تكبله، وإعلاء قيم التنوع الثقافي والحضاري وعدم التمييز بين البشر على أساس الدين أو العرق أو اللون، المستهدف لم تكن المؤسسة البحثية التي ينتمي إليها، بل القناعات التي تحملها والرسالة التي تحاول نشرها، والتي تقوم على أن الإنسان أوسع من أن تختصر خيريته في دين أو مذهب أو طائفة أو عرق، وأن كرامة الإنسان وسعادته تكمنان في احترام حريته في التفكير والتعبير والاعتقاد، وأن الرؤى الشمولية أيا كان مصدرها لا تنسجم مع اختلاف الشعوب والأمم وتنوع الثقافات وتهدد حق العيش المشترك على أرض واحدة، لذا تدعو المؤسسة لإيمان بلا حدود يتجاوز ويتعالى على التحيزات والفوارق الثقافية والعقائدية والعرقية والطائفية والمذهبية، إيمان يتمثل قيم الخير والمحبة والجمال بأرقى معانيها، وهذا بالطبع ما لا يرضي طيور الظلام التي تتلحف برداء الدين وهو منها براء.

ويناقض منطلقاتها الفكرية القائمة على تجميد العقول، وتكميم الأفواه وسلب الإنسان حقه في الاختيار، وتحويله لآلة تنفذ ما يملى عليها من أوامر دون تدبر أو تفكير؛ لذا فإن جل إنتاج مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” ومواقفها يحملان عداء شديدا للتيار المتأسلم المتاجر باسم الدين، كما تدعم المؤسسة بشكل معلن جهود الحكومات العربية في إصلاح المجال الديني وفي محاربة جماعات الإسلام السياسي، وفي تجفيف منابع التطرف والإرهاب.

قد يكون الفاعلون ما زالوا مجهولين بأشخاصهم لكنهم معلومون بالضرورة بفكرهم المعادي لقيمة العقل والرافض لحرية الإبداع، والذي لا ينظر للدين إلا باعتباره وسيلة للتسلط على البشر وليس مجالا للاجتهاد والبحث وإعمال العقل، تلك الجماعات التي جعلت من نفسها وصية على الدين، ووسيطا بين العبد وربه، فدخلت في نيات العباد وأصدرت حكمها بكفرهم أو إلحادهم، ونفذت حكمها إما بقتلهم كما حدث مع ناهض حتر، وإما بإيذاء نفوسهم وتعذيب أجسادهم ليكونوا عبرة حية لغيرهم كما حدث مع يونس قنديل.

لذا أصابع الاتهام تشير كلها إلى فاعل واحد في هذه الجريمة يمكن الاستدلال عليه بتطبيق قاعدة “ابحث عن المستفيد”، فقبل اختطافه تلقى قنديل تهديدات كثيرة بالقتل وتعرض هو ومؤسسته لحملة تشويه كبيرة وخطاب تحريضي واضح من قبل محسوبين على جماعة الإخوان المسلمين؛ بسبب نية المؤسسة في تنظيم مؤتمر مطلع هذا الشهر بعنوان “انسداد المجتمعات الإسلامية والسرديات الإسلامية الجديدة”، فتعالى خطاب الكراهية من منابر إعلامية عدة، ومن شخصيات حاولت احتكار الدين، وطالب نواب من كتلة الإصلاح النيابية التي تمثل جماعة الإخوان المسلمين بمنع إقامة المؤتمر، ومارسوا جميع أشكال الإرهاب الفكري والتحريض الإعلامي وتأليب الرأي العام؛ لمنع مؤتمر يطرح ويناقش رؤى معاصرة للدين والتدين، وكان هذا السياق هو الذي تم فيه اختطاف وتعذيب يونس قنديل.. فالمتهم معروف.. وهو ليس شخصا بقدر ما هو فكر.. فكر مريض استمراره يعني بلا شك “إرهاب لا حدود”، لذا يجب أن تتوحد الجهود كافة للقضاء عليه قبل أن يقضي علينا.

يونس قنديل.. سلاما على جسدك وتحية إلى فكرك وعقلك وقلمك.

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى