سياسة

أردوغان والعثمانيون الجدد


كتبت في الأسبوع الماضي عن سعي تركيا لمراجعة ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهو سعي تستخدم فيه الأدوات العسكرية والسياسية والاقتصادية. وأركز اليوم على جانب آخر من السياسة التركية في عهد أردوغان؛ وهو تبني الدولة لسياسات تيار العثمانية الجديدة وحلم استعادة الإمبراطورية القديمة.

ومن المثير للانتباه تتبع تغير موقف أردوغان من هذا الموضوع، من رفض الفكرة من أساسها من عشر سنوات إلى احتضانها وتنفيذها والتباهي بها الآن. أما موقف الرفض فنجده في تصريح لأردوغان إلى جريدة “الشروق” المصرية بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2009، فردا على سؤال بشأن رأيه في العثمانيين الجدد، قال: “هذا المصطلح مغلوط ولا أحبذ استخدامه، فضلا عن أنه تعبير خاطئ يبتسر الماضي وينتقص من قدره. كما أنه يستدعي إلى الذاكرة مرحلة اندثرت ولا سبيل إلى إحيائها، وإن جاز لنا أن نتعلم دروسها ونستفيد منها. ونحن لا نسعى إلى إقامة مستقبل رومانسي يدغدغ مشاعر الناس، لكننا نسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من التعاون الاقتصادي والتجاري المشترك”.

ونقارن بين هذا الموقف الواضح الذي لا لبس فيه بسياسات أردوغان وقراراته في السنوات الأخيرة التي كشفت عن توجهاته الأكثر قربا إلى أفكار العثمانية الجديدة وأستشهد على ذلك بمثالين؛ الأول عن قرار الحكومة إدخال “اللغة التركية العثمانية” فى نظام التعليم، والثاني التوسع في مدراس التعليم الديني. 

وبخصوص موضوع اللغة التركية، فقد كانت هذه اللغة تكتب في العهد العثماني بالحروف العربية حتى انتهاء الخلافة واتخاذ كمال أتاتورك رئيس الجمهورية قرارا في عام 1928 بكتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية.

واستمر هذا الوضع حتى ديسمبر/كانون الأول 2014، عندما نظمت وزارة التربية الوطنية حوارا في “مجلس شورى التعليم” بخصوص تدريس اللغة العثمانية القديمة في المدارس المتوسطة التي تشمل المرحلتين الإعدادية والثانوية، وانتهى الحوار بقرار تدريس اللغة العثمانية يشكل إلزامي في مدارس “إمام خطيب”، وهي مدارس حكومية تشرف عليها الإدارة العامة للتربية الدينية بالوزارة، أنشئت بهدف توفير الأئمة والدعاة والعاملين بالإدارات الحكومية المختصة بالشأن الديني، وتعتبر القاعدة التعليمية والتربوية لتيار العثمانية الجديدة في تركيا، وتضمن القرار تدريسها بشكل اختياري في المدارس الحكومية.

وعندما تعالت الأصوات المعارضة لهذا الاتجاه ووصفته بأنه انقلاب على دستور الدولة وهويتها وفرض أيديولوجية محددة على النظام التعليمي، كان رد أردوغان أن القرار سوف ينفذ “شاء المعارضون أم أبوا”، معتبرا أن هذا الموضوع يتعلق بهوية الأتراك وارتباطهم بجذورهم الثقافية والحضارية، وأنه لا مجال للتراجع في هذا الشأن. وأضاف أنصاره أن القرار هو في حقيقة الأمر تصحيح لخطأ تاريخي كان من شأنه إنكار ألف سنة من تاريخ تركيا وثقافتها ولغتها. 

ويخضوض التوسع فى التعليم الديني، فقد عملت حكومة أردوغان على التوسع في مدارس “إمام خطيب” الدينية، والإعلاء من مكانتها، ولم يكن ذلك محل استغراب، فالرئيس أردوغان وعدد كبير من قيادات حزبه ونوابه في البرلمان من خريجي هذه المدارس. تنتشر هذه المدارس في كل المحافظات التركية التي يدرس فيها نحو 1.3 مليون طالب وطالبة، يدرسون في نحو 4000 مدرسة، أي ما يقرب من 10% من إجمالي عدد طلاب المدارس الحكومية. ويكفي لإدراك حجم التوسع في هذا النوع من التعليم أن نقارن هذه الأرقام بالوضع في عام 2002، وهو العام الذي وصل فيه حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، فقد كان عدد طلاب هذه المدارس لا يتجاوز 50 ألف طالب.

إن اهتمام أردوغان – وحزب العدالة والتنمية – بموضوعات اللغة والتعليم الديني يفصح عن رؤيته وإيمانه بضرورة تغيير الوعي الجماعي الراهن لدى الأتراك الذي وضع أسسه كمال أتاتورك، وإحياء الوعي بالتاريخ العثماني السابق على ‘نشاء الجمهورية، وبأمجاد الإمبراطورية والافتخار بها، ليصبح هذا الوعي الجديد أساسا للجمهورية الثانية التي يتطلع أردوغان إلى الإعلان عنها في 2023، أي بعد مرور قرن على مولد الجمهورية الأولى. يرغب أردوغان في الانتقال من الهوية القومية التركية بمفهومها المحدد إلى هويه عثمانية أوسع يكون للأتراك فيها موقع القيادة والصدارة. 

وترتب على ذلك أن أصبحت المنطقة العربية من أبرز دوائر الاهتمام التركي، واستغل أردوغان الأحداث التي شهدتها المنطقة من عام 2011 وانتشار مناخ عدم الاستقرار والحروب الداخلية والحروب بالوكالة في أكثر من دولة عربية لتأكيد النفوذ التركي وتنفيذ مشروعه السياسي. يظهر ذلك في الصورة التي قدمها أردوغان لنفسه كنصير لآمال الشعوب وتطلعها إلى التغيير في فترة الانتفاضات، وفي تدخله العسكري في العراق وسوريا، وإقامة قاعدة عسكرية في قطر والصومال، وتدخله السياسي والعسكري في ليبيا. 

رافق هذه التدخلات التركية إشارات متكررة من جانب أردوغان إلى العلاقات العثمانية مع الدول العربية، التي كانت خاضعة خضوعا فعليا للإمبراطورية العثمانية وكانت تدار بواسطة الوالي أو الحاكم الذي يصدر بتعيينه فرمان عثماني، أو مستقلة فعلا مع الاحتفاظ بالروابط المعنوية والأدبية بالإمبراطورية في القرن التاسع عشر.

وعلى سبيل المثال، فإنه عندما وقع أردوغان مع السودان في عهد عمر البشير اتفاقية بشأن ميناء سواكن أشار إلى الآثار والأبنية العثمانية في هذه المدينة، واهتمام أنقرة بترميمها وصيانتها، وأشار إلى الوجود البشري العثماني في ليبيا لتبرير التدخل التركي فيها الذي وصل إلى حد إرسال عناصر من الجيش التركي. ويتباهى الرئيس التركي بأنه حفيد “السلاطين” الذين حكموا هذا الفضاء العثماني الواسع على امتداد أفريقيا وآسيا وأوروبا، وأنه يستمد من هذا التاريخ تطلعاته، كما يحرص على تذكير الشباب التركي بأمجاد أجدادهم ودورهم الحضاري في قيادة العالم لعدة قرون.

تفصح هذه الإشارات عن نسق فكري لا ينفرد به أردوغان، وإنما ينتشر بين النخبة السياسية لحزب العدالة والتنمية، وسبق أن صاغها وزير خارجيته ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو من قبل في مفهوم “الكومنولث العثماني” الذي يشمل بلاد الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان، وذلك على غرار الكومنولث البريطاني.

ووفقا لأوغلو، فإنه لا بد من إعادة صياغة دور تركيا في العالم عموما، وفي الشرق الأوسط بصفة خاصة. فهي ليست مجرد معبر أو جسر بين أوروبا وآسيا أو أنها نقطة التماس بين الشرق والغرب أو بين الإسلام والمسيحية، وإنما ينبغي لها أن تكون مركزا مستقلا لدائرة سياسية وحضارية.

وفي مقال له عام 2010، كتب أوغلو: “إنهم يقولون عنا إننا العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا”.

وفي الوقت الذي يؤكد فيه أردوغان على العثمانية كتعبير عن الهوية الحضارية الإسلامية، واستخدمها كإحدى أدوات سياسته الخارجية، فإنه في الوقت نفسه يسير في اتجاه مخالف – بل ومناقض – فيدعم التوجهات القومية التركية في سياسته الداخلية، ويدغدغ مشاعر أنصارها بمواقفه المتشددة تجاه الأكراد في تركيا وسوريا والعراق. ويظهر الاتجاه نفسه في العلاقة مع الأقليات الناطقة بالتركية في الخارج التي اهتم أردوغان بإنشاء مراكز لتعليم اللغة التركية في مناطقها.

  يشعر أردوغان – والنخبة السياسية التركية الحاكمة – أن الأحداث تسير في صالح المشروع السياسي للعثمانية الجديدة، فتركيا لديها “فائض قوة” عسكري واقتصادي. ونجحت في أن تصبح جزءا من شبكة علاقات إقليمية ودولية غاية في التعقيد، وأن تكون رقما مهما في كثير من المعادلات السياسية الراهنة، في الوقت الذي ما زال فيه العالم العربي في غمار تحولات وتقلصات. لذلك، فإن الفرصة ما زالت مواتية لها رغم كل المشاكل التي تواجهها.

 فماذا يفعل العرب تجاه هذا التحدي؟

نقلا عن العين الإخبارية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى