سياسة

قطر في قبضة اليد التركية


أعجبني ذكاءُ الرئيسِ الروسي حين أحاطَ إردوغان ووفدَه بتماثيل تصوّر الانتصارات الروسية على الأتراك، حتى لا ينسى إردوغان وضعه الطبيعي أو يتجاوز حدوده.

المفارقة أنَّ التركي إردوغان وهو يتصاغر في موسكو أمام بوتين يدخل الدوحة وكأنَّه قائدها، ويهمّش أميرَها، ويتعاملُ معه كأنَّه أحدُ تابعيه، ويحرصُ على إظهار ذلك في كل وسائل الإعلام ليؤكد هيمنتَه وسلطتَه، وأنَّ قطر إحدى المحافظات التابعة له، ويتعمَّدُ إهانة القطريين ليذيقَهم كأسَ المر الذي سقاه إياه بوتين، وكأنَّه يعوّض بذلك ما نالَه من الروس.

أحزنُ في كل مرة يزور فيها قطر، أو حين يستدعي ولاة قطر، لأنَّ طريقة التعامل لسيت علاقة شركاء وأصدقاء بل سيد وتابعه، وتجرعت المرارة 15 مرة هي عدد القمم بين تميم وإردوغان، وكل واحدة منها أسوأ من الأخرى فهو يستعرض سلطته وهيمنته سواء في طريقة التعامل، أو فرض الضرائب على قطر لتسدد كل خسائره، وتعوّض انهيارات ليرته، وتغطي نفقات عمليات غزوه لشمال سوريا، وتدفع له كل ما يريد ليتمدَّدَ في ليبيا، ومصاريف قاعدته في الصومال، وتشتري كلَّ بضائعِه الكاسدة، وتتعاقدُ مع شركاته لتنفذ مشاريع صغيرة وثانوية بأرقام مهولة.

ولم يكتفِ إردوغان بذلك، بل زرع قواتِه وأسلحتَه في كلِ شبرٍ قطري، وأباحَ لنفسه القيام بعمليات استخبارية داخل البلد، واستخدمَ أراضيها لتجربة أسلحته، أما شوارع الدوحة الحبيبة فهي ميدان الجنود الأتراك يتحرَّكون فيها بعنجهية المستعمر، ولهم على ساكنيها اليدُ العليا فهم الضيوف والسلطة، وهم القضاة إنِ اقتضى الأمر. وقريباً تتدفَّقُ الشرطة التركية لتملأ الدوحة، وتديرُ الحركة فيها، وتضبطُ تحركات القطريين المساكين الذين أصبح أكثرهم يتحاشى طرقهم، أو الاحتكاك بهم، وربما يعزل الشرفاء أنفسهم في بيوتهم وجوارهم حتى لا يتعرضوا لما يسيءُ إلى كرامتهم، أو يتسبَّبُ في إيذائهم، خاصة إنْ كانوا لا يجيدون اللغة التركية التي أصبحت ضرورة حياة إلى أنْ يكتبَ الله لأهل القطر السلامة والنجاة من هذا الاستعمار.

لقد بلغ الذلُّ منتهاه حتى إنَّ أخبارَ قطر وقراراتِها وزيارةَ أميرِها تصدر عن وكالة «الأناضول» التركية بلغة تُشبه التوجيه، وبقصد لفت الانتباه إلى أنَّ قرار قطر تتخذه أنقره، وهي التي تعلنه. ومن الأشياء المؤلمة التي أتذكرها إعلان شركة تركية عزمها تجربة صناعاتها العسكرية في الأراضي القطرية، وكأنَّ قطر مجرد ميدان تدريب لهذه الشركة ومثيلاتها.

الشركاء أنداد ومتساوون وبينهم مصالح مشتركة، وهو أمر غير متحقق في علاقة قطر مع تركيا، أو بالأصح هيمنة تركيا على قطرفي كل التفاصيل عبر اتفاقات كلها منافع لتركيا والتزامات على قطر، والأتراك بطبيعتهم وبسياستهم الحالية، قومٌ فيهم توحُّشٌ ونزوعٌ للعنف، فضلاً عن احتقار تاريخي للعرب، فكيف يغدون أصدقاءَ فجأة، وهم مثل الداء المستوطن ما أن يغزوَ الجسمَ حتى ينتشرَ في كل خلاياه، ويمتصَّ دمَه، ويشلَّ طاقته؟ كيف يغدو إردوغان صديقاً وهو المهووس بذكريات الاحتلال العثماني للدول العربية؟ كيف يغدو إردوغان صديقاً ومرارة معركة الوجبة العظيمة تخنق أنفاسه؟ كيف يغدو إردوغان صديقاً وهو يأخذ ولا يعطي، ولا يحترم أحداً، ولا يثمن الدعم القطري غير المحدود؟

لا أعرف، ومثلي قطريون كُثْرٌ، كيف رضي النظام بهذا الاستعمار، ولا كيف سلَّمه قيادَ كلِّ شيء، ولماذا رضي بهذه التبعية العجيبة. جميعنا نتساءل: أي لوثة هذه؟ وماذا يُراد بنا؟ وكيف نسلّم أعناقَنا لخصومنا وكارهينا الذين ذقنا منهم الويل أيام استعمارهم السوداء؟ وأين ذهبتِ النخوة والكرامة حتى نرضى بهذا الوضع الشاذ؟ كيف نستأمن عدونا على أمننا؟

بَقِيَ شيءٌ واحدٌ حتى تكتمل القبضةُ التركيةُ على قطر، وهو هدمُ قصر الوجبة، وحذف هذا الاسم من كل المناهج والبرامج، ومن ثم استبدال اليوم الوطني ليوافقَ المزاجَ التركيَّ، فمن يظن أنَّ إردوغان قد اكتفى فهو مخطئ، بل يزداد شراهة مع كل لقمة يتبلعها، ويطلب معها المزيد، ولن يتوقف حتى يطمئن أن قطرَ هي أولى مستعمراته، لأنَّها أقلُ من أن تكونَ مدينة تركية، بل مجرد ولاية عثمانية يتمُّ استحلابُها إلى أنْ يجفَّ ضرعها، وتكونَ موطئَ قدم لإردوغان في أرض الخليج بفضل دهاء وحنكة النظام في قطر الذي سلم أرضه بخنوع المستسلم، وقابلية الخاضع. أخشى أنْ يأتيَ يومٌ حينَ يسأل قطريٌ عن موطنه أن ينطقَها بالتركية كما هو في العنوان (الحمد لله لا أعرف التركية ولا أستسيغ سماعها).

هذا ليس همّي وحدي فهو هم كل إخواني في قطر الذين أتواصل معهم، وقد بلغ بهم الضيق حده، ونتشارك همنا وغيظنا، لأنَّنا نرى أرضنا الطاهرة تتلوث بالصبغة التركية، حتى تكاد تفقد ملامحها، ويغزوها اللسان التركي حتى تكاد تفقد هويتها.

إخواني شهر رمضان الكريم يقترب، وفيه سجلنا البطولة الكبرى في معركة «الوجبة» وطردنا العثمانيين، وهزمنا والي البصرة العثماني الذي أراد إذلال قطر وإهانتها، فجاءه الرد حاسماً زلزل الباب العالي وقتها. نحن أحفاد أولئك العظام، تسري فينا دماء الكرامة والعزة، نحن الذين لم نرضَ بذُلٍ وإهانةٍ فلعلَّ قطر تعود إلى هويتها، ونعودُ جميعاً قبائلَ وأسراً تعرف بعضها، وتقدر شراكتها التاريخية في حماية هذا الكيان الحبيب، وتعمل لأنَّ يكونَ ضمانة لأبنائنا وأحفادنا.

قطر عربية أصيلة، ولن تكون تركية أبداً مهما حدث، وما يسمى قاعدة طارق بن زياد الاستعمارية ستتذكر حكاية الوالي العثماني، وتعيد تمثيل ما حدثَ له. لأنَّ الرجولةَ لا تتبدَّل، والكرام لا يخنعون ونحن والله كذلك.

نقلا عن الشرق الأوسط

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى