سياسة

العثمانيون الجدد والبارانويا التاريخية


البارانويا هي “اضطراب الارتياب” والشعور المَرَضي بالاضطهاد والاستهداف “فقط لأنك أنت”..

أي أن المصاب بهذا الاضطراب النفسي يطبق مبدأ “أنا بخير وأنت لست كذلك” فهو يرى نفسه متميزًا بين الآخرين بينما هؤلاء الآخرين يعادونه ويستهدفونه ويريدون به الشر لا لشيء إلا لحقدهم عليه لتميزه عليهم.. ومن هذا المنطلق يبدأ في تفسير أية مواقف سلبية يتعرض لها في حياته اليومية باعتبار أن “هم يفعلون ذلك لأنهم يبغضونني ويريدون لي الأذى أما أنا فأنا بخير ولا غبار عليّ”.. ولا يحاول أن يراجع الموقف من منطلق البحث عن أخطاءه ومحاولة معالجتها..

هذا الاضطراب هو من أكثر ما يميز العثمانيين الجدد وأتباعهم فيما يتعلق بقراءة علاقات الدولة العثمانية بخصومها ومنافسيها وأثر ذلك على ضعفها وسقوطها..

فهؤلاء حين يتم تناول عوامل ضعف وسقوط الدولة العثمانية يسارعون لإلقاء المسئولية -كلها أو أكثرها- على شماعة “تآمر الدول الاستعمارية” وهم لا يعتبرونه استهدافًا لدولتهم وإنما هو بدوره منطلقه “تآمر على الإسلام والمسلمين”، باعتبار أنهم يختصرون حضارة المسلمين في العثمانيين!

– الصراع كأمر واقع:

مبرر “كان العالم كله يتآمر على العثمانيون” هو ما يمكن وصفه بـ”حجة البليد”، فمتى وُجِدَت دولة كبيرة -أو حتى صغيرة- ولم يوجد لها منافسون؟ ومتى لم تتحول المنافسة إلى استهداف والاستهداف إلى تآمر واعتداء؟ هي سُنة الحياة..

ومتى أصلًا وُجِدَت دولة إسلامية قبل دولة بني عثمان لم يوجد لها خصم أو عدو؟

منذ قيام النواة الأولى للدولة الإسلامية في المدينة المنورة/يثرب، تعرضت لعداء وتآمر قيادات قبيلة قريش الذين رأوا في دعوة الإسلام قضاءً على نظام قديم طالما انتفعوا منه، والقبائل اليهودية الثلاث الكُبرى في المدينة التي رأت في الدولة الناشئة تقوية للأوس والخزرج على حسابها، وسادات المدينة السابقين ممن وُصِفوا بالمنافقين وكانوا يستاؤون من انتزاع بساط السلطة من تحت أقدامهم، والعشائر والقبائل التي كانت تنقم على قريش تصدرها السيادة بين العرب وكانت تخشى أن يتزعمها النبي محمد ويزيد من سطوتها.

ثم دخلت المرحلة المعروفة تاريخيًا بـ”حروب الردة” وتعرضت الدولة لموجة من التمردات العنيفة سواء بين المعادين لفكرة الخضوع لسلطة مركزية يرأسها قرشيون أو الذين طمعوا في “استنساخ” تجربة النبوة لأغراض نفعية بحتة.

ثم تلتها مرحلة “تأسيس الإمبراطورية والتوسع الخارجي” والتي أدت للصدام مع الإمبراطوريتان الفارسية والبيزنطية وانتهت بالقضاء على الأولى وابتلاع أغلب ممتلكات الثانية وتحجيمها.

ومنذ نهايات العصر الراشدي عرفت الدولة فكرة “التآمر الداخلي” على يد حركة الخوارج، فضلًا عن استمرار الصراع العربي البيزنطي وانتهاء بالثورة العباسية، وفي العصر العباسي شهدت الدولة استمرار مؤامرات الخوارج ثم من بعدها حركتان داخليتان شديدتا الخطورة هما حركتا الزنج والقرامطة فضلًا عن خَط الصراع العباسي-الفاطمي باستيلاء هؤلاء الأخارى على مصر ومحاولاتهم لإخضاع الشام بل وتحوله إلى صراع “ثلاثي” عباسي-فاطمي-أموي بعد قيام الدولة الأموية في الأندلس والمغرب.

وتعرض المشرق للغزو الإفرنجي “الحملات الصليبية” طمعا في ثروات وموارد شرق وجنوب المتوسط ودخول الدولة البيزنطية “على الخَط” فيها، وحملات المغول المدمرة وطموحهم التوسعي المخيف، إضافة للحروب الأندلسية من الممالك التي اعتبرت أن حربها ضد المسلمين في الأندلس هي “حرب الاسترداد/ La reconquiata” لأرض أجدادهم من المسلمين الغزاة (حسب تفكيرهم آنذاك)، فضلًا عن حركات القرصنة والتنافس ضد الدولة المملوكية على مرافئ المتوسط من الجمهوريات الإيطالية أو من مملكة قبرص أو إمارة كاتالونيا وغيرها.

كل هذه الصراعات والصدامات والتآمرات لطالما واجهت مختلف الأنظمة الحاكمة للدول الإسلامية من حدود الصين إلى المحيط الأطلنطي.. فأي جديد تعرض له العثمانيون؟ لماذا يصور لنا هؤلاء موقف دولتهم أنها تعرضت لـ”حدث مفاجئ” أو “واقعة جديدة” أو “سابقة نادرة”؟ أليس صراع الدول وتنافسها وتناحرها منذ أقدم العصور -منذ ما قبل الإسلام حتى- هو سُنة الحياة التي تفرضها طبيعة البشر؟

فلم إذن يلوكون هذه الحُجة الخائبة في أفواههم؟

– الإرث البيزنطي الثقيل:

مما يغفله هؤلاء العثمانيين الجدد وأتباعهم، أن أية دولة ترث ممتلكات إمبراطورية أخرى هي بالضرورة ترث التَرِكة كاملة، المغنم والمغرم، فهي لا يقتصر ما آل إليها من إرث على الثروات والموقع والطاقات البشرية والطبيعية فحسب وإنما يتضمن ذلك الإرث المشكلات والمنافسات والصراعات..

فالعثمانيون عندما أسقطوا الإمبراطورية البيزنطية في العام 1453م واتخذوا من القسطنطينية عاصمة لهم، إنما هم ورثوا بالتالي مشكلات الدولة البيزنطية البائدة.. ما هي هذه المشكلات؟

من ناحية فإن موقع القسطنطينية استراتيجي ومحل منافسة سواء من الجمهوريات الإيطالية الطامعة في منافذ تجارية مميزة في شرق المتوسط، أو الدول الأوروبية الاستعمارية والتي سبق لها بالفعل أن احتلت القسطنطينية في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي حتى استرد البيزنطيون عاصمتهم، أو بعد ذلك من الروس خاصة مع وصية قيصرهم بطرس الأكبر لهم ب”الوصول للمياه الدافئة” (ملاحظة: تعرضت الدولة البيزنطية بالفعل سابقًا لمحاولات تمدد “شمالية” سواء من الروس أو من شعب الفايكينغ).

كذلك فإن العثمانيون قد ورثوا مقعد بيزنطة في التنافس على السيادة على البحر المتوسط، سواء في الجزر اليونانية أو حتى في جنوب إيطاليا، حيث بقي البيزنطيون يعتبرون جنوب إيطاليا من ممتلكاتهم “التاريخية” رغم وجود منافسين أقوياء لهم في ذلك متمثلين في الأباطرة الجرمان (الإمبراطورية الرومانية المقدسة) أو القوى الإيطالية الاستقلالية أو البابوية نفسها.. وهو ما ورثته الدولة العثمانية وتمثل في حملة محمد الثاني “الفاتح” على إيطاليا.

وبمناسبة هذا التنافس، فإن العثمانيون كذلك قد ورثوا الصراع البيزنطي – الإمبراطوري الأوروبي، فبيزنطة كانت تنظر بعين العداء لـ”الإمبراطورية البيزنطية المقدسة” في أوروبا (والتي قامت بمساعٍ بابوية بداية من عهد شارلمان) وكانت تعتبرها منافسًا لدودًا لها، وكذلك عندما سقطت بيزنطة وحل العثمانيون محلها، ورثوا تلك العداوة خاصة وأن ذروة التنافس قد عاصرت تربع أسرة “هابسبورغ” على عرش الإمبراطورية، تلك الأسرة التي كان نفوذها يشمل إسبانيا وألمانيا والنمسا وأجزاء شاسعة من إيطاليا وشرق أوروبا.. ولم يوجد قط في التاريخ عملاقان يشغلان مساحات واسعة وتتقارب خطوط تماسهما إلا تشابكا في حرب ضارية خاصة مع تطلع كلا منهما للسيادة على المتوسط (وهو أكثر بحور الأرض تحولًا لساحة منافسة للأقوياء)، إضافة لأن التوسع العثماني في شرق أوروبا قد اصطدم بالمصالح الهابسبورغية لارتباط بيتها الحاكم بهذه البلدان.

إضافة لما سبق فإن مما ورث العثمانيون حالة التمرد الدائمة من الشعوب الشرق أوروبية التي خضعت سابقًا لبيزنطة، مثل الصرب والبوسنيين والكروات واليونانيين وغيرهم، وهي شعوب جبلت قديمًا على التمرد على من يتسلط عليها أيًا من كان.. فلم تكن حركاتهم التمردية أو الانفصالية بمثابة عداء للمسلمين بالذات وإنما هي طبيعة وهو نمط قديم منذ سطوة البيزنطيين عليهم قبل قرون.

– ختامًا:

إذن فإن سبب اضمحلال وسقوط العثمانيون لم يكن-كما يروج أخلافهم الجدد-بسبب تآمر الأعداء ولا هذا التآمر كان من منطلق كراهية الإسلام والمسلمين، بل أن ما تعرضوا له من مؤامرات وحروب ومنافسات وضربات إنما هو ببساطة طبيعة الحياة.. وهي نفس التحديات التي واجهت الدول الإسلامية السابقة.. وهي كذلك التبعات الطبيعية المتوقعة من وراثتهم التركة البيزنطية الثقيلة.

ولكن من يريد غرس البارانويا التاريخية والتعتيم على العوامل الحقيقية لضعف العثمانيين وانحطاط دولتهم هو الذي يحرص على نشر الضباب حول تلك الحقائق التاريخية حتى يتسنى له التحكم بعقول سيطرت عليها العاطفة العمياء وحولها الجهل إلى مطية مطيعة لصاحب الأغراض الخبيثة.

نقلا عن سكاي نيوز عربية

تابعونا على

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى